أقلام

ثورة الأرواح بين السواد والنور

أحمد الطويل

مقدمة:

تخيّل أن روحك مرآة صافية خلقها الله لتشرق بأنوار السماء، ثم تراكمت عليها ذنوب صغيرة وكبيرة، حتى صار الغبار كثيفًا، والظلام حجابًا. تصلي فلا تجد لذة، تنام فلا ترى رؤيا صادقة، تقرأ فلا يضيء لك العلم. الحكيم جوادي الآملي قالها بوضوح: “الإثم وسخ وقذارة يلوّث الروح، فإذا اسودّت فاتتها أسرار كثيرة.”

أي خسارة أعظم من أن تُحرم من أسرار الله وأنت حي؟ أي موت أبشع من أن تعيش جسدًا بلا روح؟

هنا يأتي صوت الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كصرخة مدوية عبر القرون: “أوصيكم بتقوى الله.”

إنها ليست نصيحة لطيفة، بل حكمٌ فاصل: إمّا نور، وإمّا ظلام. إمّا حياة، وإمّا موت.

اتقوا الله لتُبعثوا أحياء من جديد

التقوى ليست فكرة فلسفية ولا تزيينًا وعظيًا، بل هي معركة يومية مع النفس. من اختارها صار قلبه حصنًا حصينًا، يرى الحق واضحًا، ويذوق حلاوة الطاعة، ويعيش حياة هادئة حتى لو اشتعلت الدنيا حوله. ومن هجرها، صار قلبه مقبرة، وجسده قبرًا متحركًا.

حين وضع الإمام العسكري (عليه السلام) التقوى مفتاح وصيته، كان يريد أن يصرخ في وجوهنا: لا عبادة بلا تقوى. لا علم بلا تقوى. لا حياة بلا تقوى.

التقوى ليست بداية الطريق فقط، بل هي الطريق كله والنهاية التي نلقى بها الله.

الورع والاجتهاد نار الإصرار في قلب المؤمن

قال الإمام (عليه السلام): “الورع في دينكم، والاجتهاد لله.”

الورع هو الكابح الذي يمنعك من السقوط في الشبهة قبل أن تصل إلى الحرام. والاجتهاد هو الوقود الذي يحملك إلى الأمام مهما كان الطريق طويلًا.

لا يكفي أن تقول “أنا مؤمن”، بل عليك أن تُتعب نفسك لله، وتجاهدها حتى تُروّضها، وتقوم الليل حين تنام العيون، وتكبح شهوتك حين تستعر النار في داخلك. هنا تُصنع البطولة، لا على المنابر ولا بالكلمات، بل في ميدان النفس حيث لا يراك إلا الله.

طول السجود سرّ الارتقاء

الإمام لم ينسَ أن يكشف عن مفتاح عجيب: طول السجود.

السجود هو لحظة سحق الكبرياء أمام عظمة الخالق، حيث يلتصق الوجه بالتراب ليعلو القلب إلى السماء. من طال سجوده طال نوره، ومن أطال الركوع أطال الله له بقاء النعمة. في السجود تُصفّى الروح وتُغسل القلوب وتُفتح الأبواب المغلقة.

الأمانة والصدق حيث تتحدد الهوية

قال (عليه السلام): “أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وصدقوا الحديث، وحسّنوا جواركم.”

الأمانة ليست خيارًا، إنها هوية. والصدق ليس تكتيكًا، إنه دم يجري في عروق المؤمن. وحسن الجوار ليس لطفًا اجتماعيًا، إنه امتحان عملي للإيمان.

في السوق، في العمل، في البيت، هنا يظهر معدننا. أن تكون أمينًا حتى مع من يخالفك، أن تكون صادقًا حتى لو خسرت، أن تكون حسن الجوار حتى مع من لا يشاركك عقيدتك، هذا هو الميدان الحقيقي. وهنا يقال: “هذا شيعي”، فيفرح الإمام.

في قلب المجتمع لا على الهامش

لم يرضَ الإمام العسكري (عليه السلام) لأتباعه أن يعيشوا في عزلة عن الناس، بل أوصاهم:

“صلّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم.”

المؤمن الحقيقي يعيش بين الناس، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، يُشعرهم بالرحمة والعدل. ليس الإيمان أن تنعزل في زاوية وتقول “أنا طاهر”، بل أن تكون في قلب المجتمع وتُضيء ظلامه بنورك.

كونوا زينًا لا تكونوا شينًا

هنا يضع الإمام النقطة الأخطر: “كونوا زينًا لنا، ولا تكونوا شينًا علينا.”

نحن المرآة التي يراها الناس عن أهل البيت. كل كذبة تُشوه صورتهم، وكل أمانة نؤديها تُجمّلها. كل موقف حسن يشدّ الناس إليهم، وكل قبح يدفع الناس عنهم.

المعركة ليست فردية، إنها مسؤولية تاريخية. إمّا أن نكون زينة ترفع ذكرهم، أو عارًا يلطخ سمعتهم.

أكثروا من ذكر الله والموت ليصفو الطريق

ولم يترك الإمام خاتمته دون أن يفتح لنا أبواب النور: “أكثروا ذكر الله، وذكر الموت، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله).”

الذكر يحيي القلب، وذكر الموت يردع النفس، وتلاوة القرآن تنير الطريق، والصلاة على النبي ترفع الحسنات عشرًا بعشر. هذه ليست إضافات ثانوية، بل صمامات الأمان حتى لا يسودّ القلب مرة أخرى.

الخلاصة:

الحياة ليست سباقًا في جمع المال ولا صراعًا على المناصب. هي معركة واحدة: معركة الروح. إمّا أن تسودّ حتى تموت حيّة، وإمّا أن تضيء حتى تبعث حيّة. وصية الإمام العسكري (عليه السلام) نار تشتعل في قلوبنا: انهضوا، لا تنتظروا، نظّفوا أرواحكم من السواد، اجعلوا حياتكم برهانًا حيًّا على صدق أهل البيت.

هذه هي الثورة الحقيقية: ثورة التقوى، ثورة الورع، ثورة السجود، ثورة أن تكونوا زينًا لا شينًا، ثورة الأرواح بين السواد والنور.

اللهم نوّر قلوبنا بنور التقوى، واغسل أرواحنا من أدران الذنوب، وارزقنا ورعًا يحجزنا عن المعصية، واجتهادًا يرفعنا إليك، وسجودًا يقرّبنا منك. اللهم اجعلنا زينًا لأوليائك لا شينًا عليهم، واملأ حياتنا صدقًا وأمانة ورحمة، حتى نكون مرآةً صافية تعكس جمال آل محمد، برحمتك يا أرحم الراحمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى