أقلام

لعبة الفهد – الحلقة العشرون والأخيرة: هبوط إجباري

 أبراهيم الرمضان

كان أبو شلاش متجهًا إلى النقطة الحدودية، يقود سيارة نقل عمومي محملة بالتبن والأعلاف، عائدًا إلى الدولة المجاورة.

عند البوابة، أمسك موظف الجوازات بجوازه، نظر إليه ثم إلى وجه الرجل المطابق للصورة، ودقق في الاسم بتمعن.

– ما محتوى السيارة؟

أجابه أبو شلاش ببرود:

– أعلاف وتبن للماشية التي أرعاها في مدينتي الحدودية.

لم يكن الجواب كافيًا لطمأنة موظف الجوازات، شيء ما لم يكن مريحًا! فأمر بإيقاف السيارة جانبًا، واستدعى فرقة التفتيش لفحص المركبة ومحتوياتها بدقة، بعد أن راوده الشك بأن هناك محظورات يتم تهريبها!

التفتيش كان دقيقًا… أكثر مما توقع أبو شلاش!

ولكن، لا شيء! لا ممنوعات في الشحنة، ولا شيء غير قانوني.

أخيرًا، قرروا تفتيشه ذاتيًا، ولكن النتيجة كانت نفسها!

كل شيء كان سليمًا…

ولكن موظف الجوازات كان لا يزال مصرًّا على أن هناك شيئًا ما لا يبدو على ما يرام.

شعر أبو شلاش بالضيق، طالب باستدعاء المدير للاحتجاج على هذا التعامل التعسفي!

تدخّل بعض الموظفين مهدئين الموقف:

– لا داعي لكل هذا، لم نعثر على شيء، يمكنك مواصلة رحلتك!

على مضض، ختم موظف الجوازات على جواز سفره، وسمح له بالعبور.

غادر أبو شلاش بسيارته، وتوارى عن الأنظار…

ولكن بعد أقل من دقيقتين فقط… جاءت سيارة أخرى إلى النقطة الحدودية! كانت سيارة صغيرة، ذات موديل قديم، بهت لونها بفعل الزمن والعوامل الجوية. من المفترض أن لونها كان أزرق في يوم من الأيام، ولكنه الآن أصبح مزيجًا باهتًا من الرمادي والأزرق المتآكل.

ألقى موظف الجوازات نظرة عابرة نحوها… ليتجمد مكانه مصعوقًا!!

إنه أبو شلاش… من جديد؟!

ولكن… كيف؟! لقد سمح له بالعبور قبل لحظات فقط!!

تقدم الموظف بذهول نحو السيارة، كان بداخلها رجلان:

الأول… كان جلمود!

أما الثاني… فهو أبو شلاش نفسه!!

حَدَّق الرجلان إلى بعضهما البعض باستغراب متبادل!

لحظة… هل هناك أبو شلاشان؟!

سأله الموظف بحيرة:

– ألم تمر من هنا قبل قليل؟

أبو شلاش الجديد، بنبرة استنكار:

– بالطبع لا! أنا وصلت الآن فقط!

ثم رفع حاجبه بشك:

– لا تقل أن هناك شخصًا انتحل شخصيتي؟! كيف سمحتم له بالعبور دون التأكد من هويته؟!

تجمّدت الدماء في عروق موظف الجوازات!

لقد كان لديه شعور بعدم الارتياح حيال الرجل الأول، ولكن لم يخطر بباله أن يكون مجرد منتحل شخصية!

– أنا آسف! لم أتحقق من هويته كما يجب… تستطيع العبور الآن.

ركض الموظف نحو الإدارة للإبلاغ عن شخص عبر الحدود بانتحال هوية، وأعطى أوصاف السيارة!

انطلقت الفرق الأمنية في المطاردة… وبعد ملاحقة، تمكنوا من اعتراض المركبة وإعادتها إلى النقطة الحدودية!

مدير الجمارك وصل بنفسه للتحقيق!

تقدم نحو أبو شلاش المزيف الذي دخل الحدود، دقق في جواز سفره، ثم أخذ بصماته…

كانت المفاجأة… أن كل شيء مطابق!

الجواز سليم … البصمات صحيحة … العلامات الحيوية متطابقة!

التفت مدير الجمارك إلى موظفه المُرتبك وسأله بنبرة صارمة:

– ما سبب الاشتباه؟

روى له الموظف ما حدث بالتفصيل، فأخذ رئيس الجوازات نفسًا عميقًا، ثم سأله:

– هل تحققت من أبو شلاش الثاني قبل أن تسمح له بالعبور؟

ارتبك الموظف… ثم تمتم:

– لا… لم أفعل.

رمقه مدير الجمارك بنظرة متجهمة، ثم استدار إلى أبو شلاش قائلًا باعتذار رسمي:

– نعتذر عما حدث، لقد كان مجرد سوء فهم.

ثم أشار إلى موظف الجوازات بصرامة:

– أنت محال إلى التحقيق فورًا!

وهكذا، كان الموظف المسكين هو الضحية الوحيدة لهذه المتاهة العجيبة…

فيما عبر “أبو شلاش” الحقيقي… أو من يُفترض أنه كذلك… بابتسامة ماكرة، وترك خلفه لغزًا لن يجدوا له تفسيرًا قريبًا!

وصل أبو شلاش إلى المدينة الحدودية، وأوقف سيارته عند أول محطة، ليلمح هناك سيارة صغيرة، قديمة، بلون رمادي مائل إلى الأزرق المتآكل بفعل الزمن. ترجل أبو شلاش من سيارته واقترب بحذر.

ليفتح باب السيارة الأخرى ويخرج منها… أبو شلاش!

تبادل الاثنان نظرات سريعة، قبل أن يبتسم أحدهما ويمد يده للآخر، ثم تعانقا وكأنهما توأمان افترقا لعقود.

وقف جلمود على مقربة منهما، وقد ضاق ذرعًا بهذه المسرحية المربكة، ليضع يديه على خصره ويسأل بنبرة نافد صبرها:

– فلننهي هذه اللعبة الآن… من منكما فهد؟!

ابتسم أحدهما، بينما الآخر وضع يده على رأسه بتنهيدة وكأنه شعر بالإرهاق من هذه الحيلة الطويلة، ثم ببطء، أزال القناع عن رأسه، والتفت فهد إلى جلمود:

– لا شك أنها كانت لعبة مملة، لكنها تظلّ أفضل من مسرحيتي السابقة عندما انتحلت شخصية خروف! المرة الأولى كنتُ حيوانًا، والثانية إنسانًا، فماذا ستكون الثالثة؟ هل ستجعلونني قطعة أثاث مثلاً؟!

ضحك أبو شلاش، بينما ظل جلمود محافظًا على جديته المعتادة، قبل أن يقول له بنبرة صارمة:

– عليك أن تأخذ قسطًا من الراحة الآن قبل أن تواصل رحلتك لإكمال الخطة.

وفي مكان آخر، كان العم أبو حميد جالسًا في أحد المقاهي الشعبية بعد انتهاء فترة عمله، فضَّل أن يحتسي كوبًا من الشاي قبل العودة إلى المنزل، وطلب طبقًا من اللقيمات مع دبس التمر.

وبينما كان لا يزال جالسًا بمفرده، مرَّ بجانبه شخص مألوف، ألقى عليه تحية الإسلام. نظر إليه أبو حميد بعين الريبة قبل أن يرد عليه التحية:

– أهلاً بك أيها النقيب مدرك… مرَّ وقت طويل!

النقيب مدرك (بابتسامة خفيفة):

– آمل ألا أكون قد قطعت خلوتك.

أبو حميد (مبتسمًا وهو يشير إلى الطاولة):

– لا بأس، تفضل بالجلوس، وشاركني اللقيمات.

النقيب مدرك:

– أشكرك، سآخذ واحدة فقط.

جلس النقيب مدرك، وبعد لحظات قليلة من الصمت، سأله بهدوء:

– أردت فقط أن أسألك بالمناسبة… عندما ذهبت إلى منزل أبو فهد، تبين لي أنهم عادوا إلى قريتهم السابقة… هل تعرف موقع المنزل؟

شعر أبو حميد بأن شعور الريبة الذي راوده لم يكن في غير محله، فأجاب وهو يتأمله بتمعن:

– يبدو أنك لا زلت تتقصى أخبار فهد!

النقيب مدرك (بنبرة جادة):

– لا، ليس هذا قصدي… صحيح أنني لم أقبل هذه الطريقة في إنهاء إمبراطورية أبو مشاري، وكنت أتمنى أن تكون نهايته بيد القانون، وبقرار سيادي… ولكن (تنهد وهو ينظر إلى كوب الشاي) يبدو أن الرجل كان فوق السيادة والقانون.

أبو حميد (يبتسم ببطء):

– تذكرت أخاه علي، عندما تعرَّض لتنمر جارح في مدرسته، دون أن تأخذ الإدارة حقه أو تطبق الأنظمة كما ينبغي! أذكر أنني قلت له حينها إن الحياة ليست عادلة دائمًا، وإننا أحيانًا نضطر لاتباع طرق معينة لإعادة التوازن. (رفع كتفيه بلا مبالاة وكأنه غير مقتنع تمامًا) مع أن الطريقة التي أخذت بها حق علي لم تكن الأسلوب الأمثل، بل كانت أقرب إلى الابتزاز الصريح… لكن عندما تجد نفسك في مواجهة شخص فوق النظام، فلا خيار لك إلا أن تجرّه إلى مستوى يجعله عاجزًا عن الاستفادة من نفوذه.

النقيب مدرك (مفكرًا):

– عندما لا تجد نفسك ندًا لخصمك… تضربه تحت الحزام؟

أبو حميد:

– هو من وضع نفسه في هذا الوضع، عندما جعل المواجهة غير عادلة ولا نزيهة، فلا ينبغي له أن يتوقع معاملة مختلفة منا… هم يدركون ذلك جيدًا، ويجب أن يتحملوا العواقب.

هز النقيب مدرك رأسه بتفهم، قبل أن يرد:

– من الصعب على شخص مثلي أن يتنازل عن قيمه، حتى لو خالفت أهواءه. على العموم، يمكنك الامتناع عن إرشادي إلى مكان سكنهم الحالي إذا كان هذا يقلقك.

أبو حميد (يضحك وهو يلوح بيده بلا مبالاة):

– ولماذا يقلقني؟ لا يوجد سبب يدعو لذلك.

ثم بدأ يشرح له الطريق إلى منزل أبو فهد في القرية.

بعد فترة…

سمع أبو فهد جرس الباب يرن. لم يعد يعيش في الحي الجديد، إذ أنه استجابة لرغبة ابنه علي، أجرى تفاهمًا مع إخوته لتسوية بينهم، فاشترى حصصهم بالكامل في بيت الورثة بالقرية، مقابل أن ينتقلوا إلى منزله في الحي الجديد. رغم أن فارق السعر والمساحة بين البيتين ليس بسيطًا، إلا أنه تنازل عن الفرق عن طيب خاطر.

اتجه أبو فهد إلى الباب وفتحه، ليجد النقيب مدرك واقفًا أمامه، فألقى عليه تحية الإسلام. رد عليه السلام بابتسامة متململة، ثم قال:

– حياك الله أيها النقيب! آمل أنك لم تأتِ لتسألني عن (الفهد) كما يحلو لك أن تسميه! فقد سبقك رجال الشرطة بذلك قبل فترة، هذا عدا عن المتطفلين الذين كانوا يقتحمون خصوصيتنا في حينا السابق حتى ارتحنا من إزعاجهم أخيرًا. وأرجو ألّا يكون الدور الآن على إخوتي! إن كنتم تريدون فهدًا، فابحثوا عنه بأنفسكم، اعتقلوه إن استطعتم، لكن دعوني وشأني، فأنا لست مركز خدمة العملاء الخاص به!

النقيب مدرك:

– كن مطمئنًا، لم آتِ إلى هنا لهذا السبب. أما بخصوص الشرطة، فقد أغلقوا ملفه بعد أن تحققوا من عدم وجوده داخل البلاد، واعتبروا سفره إلى الدولة الإفريقية البعيدة مبررًا كافيًا لغيابه.

أبو فهد (بهدوء ورضا):

– جميل، هكذا أفضل.

يردف أبو فهد بعد ابتسامة خفيفة:

– أين كان هؤلاء الشرطة عندما تجمهرت عليه الحشود؟! حسب علمي، استغاث بهم أخيرًا، لكنهم تجاهلوه تمامًا!

رفع النقيب مدرك كتفيه قبل أن يجيب:

– هذا ما جنته يداه… طالما كان يستعلي على الأمن العام ويرفض التعاون معهم، فوجدوا الفرصة سانحة للتخلص منه! مع ذلك، حاولوا لاحقًا إلصاق المسؤولية على “المخربين”، كما أسموهم، لكن دون أن يتمكنوا من إدانة شخص محدد، خاصة بعد فشلهم في إثبات أي تهمة على فهد، رغم محاولات البعض الزج باسمه في القضية.

أردف قائلاً:

– مع أني متأكد أنك تعرف مكانه، لكني لن ألزمك بإخباري… ومع ذلك، أريدك أن توصل له رسالتي. أخبره أنني لن أتعقبه أبدًا، رغم كل ما فعله، لأنني لا زلت متمسكًا بمبادئي وقيمي، وأدرك أن العدالة لم تكن لتتحقق بسهولة في قضيته. لكن ليعلم جيدًا… إذا تجاوز الخطوط الحمراء وخرج عن القانون، فلن أتردد لحظة في ملاحقته، سواء كنت أوافق على طريقة انتقامه من أبو مشاري أم لا. أنا لا أحاسب الناس على نواياهم، ولكن على أفعالهم… وإن كان يظن أنه بات فوق القانون كما كان عدوه، فهو مخطئ، ولن أسمح بذلك أبدًا.

ابتسم النقيب مدرك قبل أن يقرر المغادرة، لكنه توقف فجأة وسأل أبا فهد هامسًا:

– هناك شيء واحد فقط يثير فضولي… أنا أعلم أنه تسلل إلى الدولة المجاورة كما فعل سابقًا، وأعلم أيضًا أنه خرج منها، كما أعلم أنه غادر تلك الدولة الإفريقية وأعرف أين هو الآن. ولكن، بالتأكيد، لم يستخدم الطائرة للوصول إلى الدولة الإفريقية… فكيف وصل إلى هناك؟

ضحك أبو فهد قليلاً وهو يرد:

– مخابراتك لا تخطئ أبداً، غريب أنها لم تتوصل إلى هذه المعلومة!

رد عليه النقيب مدرك بضحكة أخرى وقال:

– لأننا لا نملك سوى المعلومات التي تظهر لدينا ونستطيع الوصول إليها، لكن هذه… هذه حلقة مفقودة، وإن لم تعد ذات أهمية لنا، إلا أنها أثارت فضولي.

أبو فهد، محاولًا إخفاء ضحكته:

– تم تهريبه هذه المرة كسيارة!! شُحن في سفينة إلى الدولة الإفريقية!

ثم هزّ كتفيه وأضاف ساخرًا:

– أما كيف سارت الأمور بهذه الطريقة؟ (هزّ كتفيه مجددًا) لا أدري… ولكن يبدو أن الفهد يُتقن كل أنواع الهروب!

مرت أكثر من سنة على تلك الأحداث، كان أبو فهد على وشك الدخول إلى منزله عندما سمع صوتًا يناديه:

– العم أبو فهد!

التفت خلفه، ليجد ناهد برفقة أم موسى. رحّب بهما بحرارة وسألها عن أحوالها، فأخبرته بابتسامة:

– الحمد لله، أنهيت المرحلة الثانوية، والآن بدأت أخطّط لإكمال دراستي الجامعية.

سألته بالمقابل عن أخبار فهد، فأجابها بابتسامة خفيفة:

– أخيرًا، أخذ بنصيحتي واستطاع إنهاء دراسته الجامعية دون الحاجة للبدء من الصفر. صحيح أن ذلك كان ممكنًا هنا، ولكنه وجد الأمر أكثر يُسرًا في الخارج. حصل على قبول في إحدى الجامعات التي منحته مرونة كبيرة في معادلة مقرراته، حيث تم احتساب 75% من إجمالي المواد التي درسها سابقًا. لم يحتج سوى إلى عام دراسي واحد فقط، إضافة إلى فصلين صيفيين لنيل درجة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية.

أردف متأففًا بعد أن غمغم قليلًا:

– رغم أن الوضع الآن لم يعد خطيرًا، ولا توجد أي أوامر لمطاردته، إلا أنه يرفض العودة! هذا الولد عنيد لأقصى درجة… يبدو أن سقف الخطوط الحمراء هنا لا يعجبه أبدًا.

ثم أضاف ساخرًا، متذكّرًا حوارًا سابقًا معه:

– ربما قرر الآن أن يجري فحصًا لجيناته، بما أن معركته قد انتهت!

تبادلت أم موسى وناهد النظرات، قبل أن تسأل أم موسى بقلق:

– ألا يفكر حتى في الزيارة؟

لوّح أبو فهد بيده وكأنه يردّ على فكرة عبثية:

– على الإطلاق! ربما يمكنه التحليق فوق بلادنا أو المرور بمحاذاتها في طائرته، ولكن أن يهبط هنا فعليًا؟ لا أظن ذلك!! بدأت أشك أنه سيشكل خلية خاصة به في الخارج! أراهن بأن طموحه الآن أن يصبح المطلوب الأول في العالم، ويكون المطارد رقم 1 للإنتربول!

ضحكت ناهد بخفّة، ولكنها سرعان ما تماسكت وقالت بنبرة نصف جادة:

– لا أظن أنه مهتم بالإنتربول بقدر اهتمامه بأن يظل حرًا… ولكنني واثقة أنه لن ينسى المكان الذي بدأ منه كل شيء.

تنهد أبو فهد وهو ينظر إلى الأفق:

– هذا ما أتمناه… ولكن هذا الولد لا يمكن توقع تصرفاته. ربما في يوم ما، حين يقتنع بأن كل شيء انتهى فعلًا، سنراه يطرق هذا الباب من جديد.

استأذنته أم موسى قبل المغادرة، وعندما كاد أبو فهد أن يدخل بيته، عادت ناهد ونادته مجددًا:

– عذرًا يا عمي، سمعتك تتحدث عن إمكانية التحليق فوق بلادنا أو بمحاذاتها، وشيء من هذا القبيل… هل كنت تتحدث مجازًا، أم أن هناك فعلاً رحلة من هذا النوع؟

تفاجأ أبو فهد من السؤال، فكر قليلًا قبل أن يجيب:

– حسبما أذكر، أخبرنا عن رحلة قريبة إلى إحدى الدول الآسيوية، ولكنه لم يخبرني عن هدفها أو طبيعتها. كل ما عرفته أن خط سير الطيران قد يمر فوقنا أو فوق إحدى الدول المجاورة، لذلك اقترحت عليه أن يخطط لرحلته بحيث تكون بلادنا محطة استراحة قصيرة قبل أن يكمل طريقه. ولكنه، كعادته، رفض الفكرة تمامًا… عنيد كما تعرفينه!

صمت أبو فهد قليلًا، ثم رمق ناهد بنظرة متفحصة، محاولًا استيضاح ما ترمي إليه. ولكن ناهد اكتفت بابتسامة غامضة قبل أن تستأذن للرحيل.

بعد حوالي شهر…

ركب فهد الطائرة كما هو مخطط له، متجهًا إلى إحدى الدول الآسيوية. بعد ساعات من الإقلاع، دوّى صوت إنذار مفاجئ، تلاه صوت الطيار عبر مكبر الصوت وهو يعتذر للركاب قائلًا:

– أيها السادة الركاب، نظرًا لحدوث أعطال تقنية غير متوقعة، سنضطر إلى الهبوط الاضطراري في أقرب مطار متاح، نأسف على الإزعاج!

تأفف فهد وهو يستلقي على المقعد ويمسد جبهته:

– هبوط اضطراري جديد؟! لم أكن أعلم أنني أملك اشتراكًا مجانيًا مع شركة الطيران في باقة (المفاجآت غير السارة)!

وبعد دقائق، هبطت الطائرة بسلام. لكن بمجرد دخولهم المنطقة الحرة، بدأ رجال أمن المطار بإخلاء المكان، وطلبوا من جميع الركاب تسجيل دخولهم إلى الدولة التي هبطوا فيها، كإجراء “احترازي”.

شعر فهد بعدم الارتياح… كان هناك شيء مريب في الأجواء، شيء أكبر من مجرد “إجراءات احترازية”. وكأن الأمر لم يكن كافيًا، حتى جاءت الضربة القاضية بإعلان شركة الطيران:

– أيها الركاب الكرام، نعتذر عن الإزعاج، ولكن بسبب الحاجة إلى إعادة جدولة الرحلة، سيتم تأجيلها لمدة 24 ساعة، وسنوفر لكم إقامة مجانية في فندق 5 نجوم شاملة ثلاث وجبات لحين موعد الرحلة الجديدة.

في تلك اللحظة، كاد فهد أن يطلق صرخة إحباط! فندق؟!! فندق مرة أخرى؟!!

تحسس جيوبه بحركة مسرحية وكأنه يبحث عن شيء، ثم تمتم بتهكم:

– أين حظي؟ لا أراه هنا!! آخر مرة رأيته كان في الطائرة قبل أن يخطفه الطيار! أكاد أقسم أن حظي لو كان شخصًا، لكان الآن مطلوبًا دوليًا بتهمة التواطؤ ضدي!

ثم زفر بغضب وهو يغمغم:

– أُفضّل النوم في العراء، بجوار مجموعة من الكلاب الضالة، على أن أعود إلى فندق آخر… هذا الاسم وحده كفيل بأن يصيبني بالحساسية! بل أكاد أشعر بحكة في جلدي الآن! تذكّرني بشخص أحاول نسيان اسمه… ولكن لسوء الحظ، الكون بأسره يصر على أن يُعيده إلى حياتي!

وبمجرد أن أنهى تسجيل دخوله، التفت ليجد الجواب أمامه مباشرة… أبو موسى، واقفًا هناك، يستقبله بابتسامة واسعة، فاتحًا ذراعيه بحرارة.

لم يتمالك فهد نفسه، عقد ذراعيه وهو ينظر إليه بنصف ابتسامة ونصف استسلام:

– فعلتها يا عم؟!

ولكن قبل أن يسمع أي رد، سمع صوتًا مألوفًا خلفه… صوت أنثوي لم يسمعه منذ زمن طويل. استدار ببطء، لتقع عيناه على ناهد، واقفة أمامه، تعقد ذراعيها، وتنظر إليه بنظرة لا تخلو من التحدي، ومن خلفها كلٌ من أبي فهد وعوض… وصاحبيه خالد وأبو حميد.

ابتسم أبو موسى وقال بنبرة واثقة:

– مرحبًا بك على أرض الوطن… ولو بالإجبار!

قابله فهد بابتسامة جانبية:

– الآن فهمت! لم يكن مجرد “هبوط اضطراري”، بل “هبوطًا إجباريًا”! ربما لأننا في النهاية ملزمون بأن نهبط هنا، ليس فقط بالطائرات… بل بأرواحنا وقلوبنا أيضًا، وفاءً لأرضنا، ووطننا، وأهلنا…

… النهاية …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى