أقلام

عبور (١)

السيد فاضل آل درويش

ورد عن الإمام الحسن العسكري (ع): إنكم في آجال منقوصة وأيام معدودة، والموت يأتي بغتة. من يزرع خيرًا يحصد غبطة، ومن يزرع شرًّا يحصد ندامة، لكل زارع ما زرع)(بحار الأنوار ج ٥ ص ٣٧٢).

تقدّم لنا هذه التحفة الحكمية نظرة وجودية قبل أن تطأ أقدامنا أرض العمل وميادين المعرفة والإنجاز، فالآجال بمعنى الأعمار المكتوبة حقيقة لا ينبغي إغفالها أو العمل بخلافها بما يوقع الإنسان في زيف وسراب يداهمه بعدها الرحيل دون سابق إنذار، وقبل أن نقدم على أي عمل نقف وقفة تأمل وتبصّر بماهية ما نبذره في أرض الأمل والعمل لنكون على بينة واضحة بحصاد وجني الثمار، فهناك من يحيا الغفلة عن الحقائق ويعمل على غير هدى ويسير كالأعمى في طريق مملوء بالأشواك والعراقيل والعثرات، وقبل أن نسير في أنفاق مظلمة تقدم لنا هذه الحكمة رؤية تعيد ترتيب أوراقنا وأولوياتنا وطريقة تعاملنا مع أهدافنا، ففكرة المتّسع من الوقت وتأجيل الأعمال وترحيلها إلى الأيام القادمة تصطدم مع حقيقة الآجال المكتوبة ومحدودية أوراق العمر، فعدّاد الأيام مع طي سجل كل يوم يتوجه نحو طريق التناقص والانقضاء دون قدرة على استرجاع الماضي لتغيير وقائعه وتفاصيله، وهذا الحساب التنازلي لا يبعث على الضعف أو اليأس فتدبّ المخاوف من هاجس الرحيل المفاجيء، بل تبعث على التحرك بهمة عالية لتحويل الأيام كمراحل ومحطات لتحقيق الأهداف المرسومة وتمكين قدراتنا وتنميتها لتحقق على أرض الواقع لمسات تثبت وجودنا الحقيقي، فخط النهاية أمر لا مفر منه ويدخل في نطاق قناعتنا بيقينيات ولكن ما يميز الإنسان الواعي بحقائق الأمور هو إرادته على صنع واقع يليق بمقامه المكرّم من الله تعالى بعقل مفكر وقدرات مهارية يمكنه من خلالها إعمار الأرض وتنمية المجتمع.

أولى الآثار المترتبة على محدودية الأعمار والعمل بكل همة في هذا الإطار الزماني المتاح، تُلقى علينا مسئولية التعرف على ذواتنا وما نمتلكه من قدرات، كما أن الأخطاء وأوجه التقصير ونقاط الضعف يمكن الانطلاق لإصلاحها ومعالجتها والسير مجددًا بكل نشاط وحيوية، كما أن الاعتراف بالخطأ والتوبة يعني الاستعداد للتغيير والانطلاق مجددًا بعد التخلّص من أعباء المسير الخاطيء لفترة معينة.

وليس هناك من خطأ نرتكبه أمام حقيقة الآجال كالتسويف والتأجيل للمهام والواجبات والخطى لمراحل مستقبلية مع قدرتنا على إنجازها في الحاضر، والاستغراق في الأمور الهامشية والتفاصيل الخاصة بالآخرين يقودنا نحو ضياع بوصلة الهدف والعمل المُتقن بالدخول في دهاليز الضياع.

والرحيل ليس له من موعد نعرفه أو نترقبه أو نخمّنه حتى بل يأتي فجأة ودون سابق إنذار، والعقل الواعي يتعامل مع هذه الحقيقة بطريقة إيجابية وفاعلة عن طريق فكرة الاستعداد للرحيل في فكرنا وسلوكنا، إذ أن الأمر لا يندرج تحت إطار الترف والمثالية بل هو أمر ضروري يتفرّع من مبدأ تحمل المسؤولية والوجود الفاعل والمنتج، ويساعدنا ذلك على التحرّر من أغلال الافتتان بالمظاهر الدنيوية حدّ الطمع والجشع وبلوغ الدرجات العليا من الأنانية، بل ينطلق في الحياة من حقيقتها وهي أنها مزرعة الأعمال الصالحة حتى يصل إلى يوم الحصاد والحساب في عالم الآخرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى