الإستغلالي

عماد آل عبيدان
على خشبة الحياة لا يرقص الجميع بصدق؛ بعضهم يتقن دور المستنزف، يصفّق لنفسه وهو يلتهمك بابتسامة باردة. أخطر ما قد تواجهه ليس عدوًّا معلنًا، إنما قريبًا أو صديقًا إليك يحوّل عطاءك إلى دين عليك، ويُسجّل فضله فوق جراحك. وهناك أشخاص إذا أطعمتهم من قلبك، عادوا إليك بفاتورة كأنك أنت من التهم قلبهم.
هناك شخصيات لا تتغذى بالحب ولا بالودّ، إنما تعيش على نَسغ غريب: استنزاف الآخرين. تُشعرك أنّ ما تقدّمه لها ليس معروفًا منك، إنما “واجبٌ” عليك. وحين تُفرغ جُهدك ووقتك وجيبك، تفاجأ بأنهم يضعونك في خانة المُقصِّر، وكأنك مدينٌ لهم بما تبذل أصلًا!
هذه الشخصيات تُتقن لعبة “المِنة المقلوبة”. فأنت تتعب لأجلهم، وتُرهق خطواتك خلف حاجاتهم، وفي نهاية المشوار يُباركون لك خسارتك بابتسامة باردة، ويُوهمونك أنّهم أصحاب الفضل عليك، لا العكس. الأمر ليس خلافًا فيختفي، إنما نمط عيش قائم على تحويل عطاء الآخرين إلى “إيصال استلام” يضعونه في جيوبهم، ثم يُذيعون بين الناس أنهم الداعمون وأنت التابع وإنهم لم يقصروا تجاهك.
وللحق، لم تكن المشكلة في “أخذهم” إنما في “كيفيّة أخذهم”. فالمُحتاج قد يمدّ يده بخجل، أما الاستغلاليّ فيمدّ قلبك فوق صحنه، ثم يطلب المزيد، وكأنك نبع لا يجف. هو لا يعرف الامتنان، لأن الامتنان عنده ضعف، ولا يعرف الاعتراف، لأن الاعتراف يخلع عن نفسه هالة التفوّق.
عند محاورتك نفسك: “لِمَ أفعل ذلك إذن؟” قد تكتشف أنّك ضحية شعور إنسانيّ نبيل: حب المساعدة. ولكن هؤلاء يلتقطون النبل كصياد يلتقط العصفور الغِرّ، يضعونه في قفصهم الخاص، ويتركونك تظن أنك ما زلتَ حرًّا. الحقيقة أنك خرجت من المعركة مثقوب الروح، بلا تقدير ولا حتى كلمة تُخفّف عناءك.
مشهد من الواقع
جلس صديق إلى جوار صديقه القديم في مجلسه، بوجه متهلّل، يروي قصة حاجته الملحّة لاقتراض مبلغ مالي “حتى نهاية الأسبوع”. أخرج الآخر محفظته على الفور، مدفوعًا بصدق المودّة. بعد أيام رآه يشتري ساعة جديدة لا حاجة لها، ثم هاتفًا غاليًا في الشهر التالي. لم يُرجع قرشًا مما أخذ، صار كل لقاء بينهما بداية طلب جديد. حتى إذا ضاق قلب المانح واعتذر، انقلبت الوجوه: “أيعجز صديق العمر عن الوقوف بجانبي واقراضي مبلغًا صغيرًا؟!” لحظة صاعقة يكتشف فيها المرء أن يده كانت جسرًا، والآخر لم يَعبر فحسب، لكنه ظلّ يقيم فوقه خيمته.
الناس في أيامنا هذه، حيث تُسابق الواجبات الزمن ومع الحالة الاقتصادية والاجتماعية، يكثر هذا النمط منهم. تجد أحدهم يتقن تمثيل الحاجة في مجالس العائلة، أو في أروقة العمل، أو حتى بين الأصدقاء. يتحدث وكأنك وُجدت لتُسهّل له الحياة، فإذا اعتذرت عن خدمة، ارتسمت على محيّاه علامات خيبة مقصودة، كأنها لافتة تقول: “أنت خذلتني.” اعتقدت أني سأجد ضالتي وقضاء حاجتي منك، ولكن؟!
الطريف المُبكي، أن الاستغلاليّ يُعاني من جوع داخليّ لا يشبع. كل ما تقدّمه اليوم، يصبح عنده كقطرة في بحر عطشه، وغدًا يُطالبك بغيرها وغيرها، وبعد غد يزيد وكأنك حساب مفتوح يستغله متى ما شاء! وإن توقفتَ عن الضخّ، صار هو “المظلوم” وأنت “المُقصِّر”!
ومن صور هذا النمط ما نراه مع بعض الأصحاب؛ يأتيك في كل مرة بطلب مبلغ مالي صغير أو كبير، دون أن تكون حاجته ملحّة، وإنما عادة دائمة اعتادها. ولشدّ ما تصدمك حين تكتشف أنّ المبلغ صُرف على كماليات لا ضرورة لها، وربما على لهو وزهو، لا على حاجة تبرّر الاستدانة. والأسوأ أنّه لا يردّ شيئًا مما أخذ، وكأن المال مالُه، أو الأداة أداته، يستعيرها ثم ينساها في درج بيته، يراك في كل مرة وكأنك خزينة مفتوحة. وحين تلمّح أو تذكّره بما أخذ، يرمقك بنظرة عتاب كأنك أنت من خذلته، وأنت من ورّطته. وهكذا تُكرَّر القصص، حتى يملّ الناس من تصرّفاته ويبتعدون عنه، غير أنّه لا يتوقف عن التمثيل والطلب.
فما العمل؟ هل نُعاقب أنفسنا لأننا أعطينا؟ لا. العطاء فضيلة، لكن ضبط مساره حكمة. أن تضع حدودًا لا يعني قسوة، إنما يعني إنصافًا لنفسك. أن تقول: “هنا يكفي” ليس أنانية، إنما وعي بأن استمرارك إنسانًا سليمًا أهمّ من أن تُصبح جسرًا يُداس عليه.
نحتاج أن نعيد النظر في ثقافة “التضحية بلا حساب”. المجتمع لا يبنى على استنزاف بعضه، إنما على التكامل. من أخذ شكر، ومن قدّم وجِب أن يُكرَّم. وكم هو جميل أن يُربَّى الجيل الجديد على أن الشكر لا يُنقص من قدر صاحبه، إنما يرفعه.
لا تعتقد أن الاستغلالية قوة، هي فقر في الروح. ومن أراد أن يعيش بها، فليستعد أن يجد نفسه وحيدًا ذات يوم، باكتشاف الناس أنّ قناعه لم يعد يُغري أحدًا. أما من وعى الدرس مبكرًا، فسيبقى يعطي، نعم، لكن يعطي بميزان، ويحفظ لنفسه ماءها وكرامتها.
الاستغلاليّ ما كان رفيقك ولا نصيرك ولن يكون، فهو ليس إلا سارق بثياب أنيقة، يسرق جهدك باسم الواجب والمعزة والصداقة والقرابة، ويقتات على قلبك باسم المعروف. إن لم تُغلق الباب، سيحوّلك إلى أطلال تمشي على قدمين، يفاخر أمام الناس بأنه هو من أنقذك، بينما الحقيقة أنه التهمك قطعةً قطعة.
ومع ذلك، لسنا مدعوّين لأن نغلق قلوبنا أو نتحوّل إلى جدران قاسية. العطاء فضيلة، لكن الفضيلة لا تكتمل إلا إذا صان صاحبها نفسه من التهشّم. امنح بقدر ما يُبقيك قادرًا على العطاء، واحتفظ بجزء من طاقتك لنفسك، فالتوازن هو الذي يجعل علاقاتنا حيّة وعادلة، ويحفظ للطيبين بهاءهم دون أن يُحوَّلوا إلى وقود لحريق الآخرين.