أقلام

الزواج بين سطوة التقاليد وضغوط الحداثة

سامي آل مرزوق

الأسرة ليست مجرد محطة عابرة في حياة الإنسان، بل هي الجذر الذي يتفرع منه الوعي، والمأوى الذي يلتئم فيه الجرح، والحصن الذي يحتمي به الفرد من رياح الحياة العاتية. ومن دونها يظل الإنسان ناقص الانتماء، هش الصلة بالاستقرار، مضطرب الملامح أمام نفسه وأمام الآخرين، ولأنها اللبنة الأولى في صرح المجتمع، كان الزواج هو الباب الذي تُفتح منه أبواب المودة، والميثاق الذي جعله الله عز وجل أساساً للسكينة، والوسيلة التي تتجدد عبرها حركة الحياة وبناء الأجيال.

غير أن هذا الميثاق الذي كان في الماضي أيسر وأقرب إلى الفطرة، أضحى في حاضرنا معقداً مثقلاً بالتطورات المتشابكة، والأعراف المتداخلة، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، ففي حين يرى البعض أن الحفاظ على التقاليد هو صون للهوية وضمان لاستمرار القيم، ينظر آخرون إلى الحداثة باعتبارها شرطاً ضرورياً لمجاراة العصر وتلبية طموحات الشباب، وهكذا يتحول الزواج، بدل أن يكون نقطة التقاء، إلى ساحة شد وجذب، وربما إلى معركة مفتوحة بين ما ورثناه من الماضي وما يفرضه الحاضر من متغيرات.

إنها معركة لا يخوضها فرد واحد، بل يشارك فيها الآباء والأمهات والمجتمع بأسره، حيث تتقاطع الرؤى بين من يرى الزواج مشروعاً اجتماعياً تحكمه الأعراف والتقاليد، ومن يعتبره قراراً شخصياً خالصاً ينبغي أن تُحترم فيه رغبات الطرفين قبل أي اعتبار آخر، وهنا يتساءل المرء. هل مازال الزواج جسراً نحو الاستقرار وبناء أسرة متينة، أم أصبح امتحاناً مرهقاً يواجه في الشباب طوفان الشروط والانتظارات قبل أن تطأ أقدامهم عتبة الحياة الجديدة.

في الزمن القديم، كان الزواج يجري ببساطة تكاد تدهشنا اليوم، الأحياء صغيرة، البيوت متقاربة، والجيران يعرفون تفاصيل حياة بعضهم البعض، لم تكن هناك حاجة لمقدمات طويلة أو اختبارات معقدة، فالفتاة معروفة لأهل الحي بخلقها وأدبها، والشاب معروف بجده وصدقه، والزيارات العائلية كافية لكشف الطباع وتوضيح الملامح بلا تكلف ولا تصنع، يومها كان الزواج خطوة طبيعية، تأتي امتداداً لمعرفة سابقة وعلاقة اجتماعية متينة، فيطمئن الطرفان إلى بعضهما، ويطمئن الأهل إلى أن أبنتهم أو ابنهم يخطو نحو حياة جديدة مع شخص يعرفونه عن قرب، و يتكئون على ثقة راسخة تكونت عبر الزمن لا عبر الصور والكلمات.

لكن العالم تغير بسرعة أذهلت الجميع، المدن كبرت حتى تباعدت المسافات بين الناس، وصارت العزلة خياراً يفرضه الإيقاع الصاخب للحياة. تراجعت الزيارات الاجتماعية أمام ضغط العمل والركض اليومي، واحتلت وسائل التواصل مكان اللقاءات المباشرة، فصنعت صوراً مثالية لامعة بعيدة عن الواقع المعيش. لم يعد الشاب يجد بسهولة من يشبهه في الطموح والقيم، ولم تعد الفتاة تملك فرصاً طبيعية للتعارف كما كانت من قبل. ازداد الاعتماد على الانطباعات السطحية، وتضخمت التوقعات حتى غدت أقرب إلى الخيال منها إلى الممكن، فأصبح بعضهم يبحث عن شريك حياة كامل لا عيب فيه، بينما تصنع أمامه فرص حقيقية لبناء بيت واقعي يقوم على التفاهم والمودة لا على الكمال المتخيل.

وبين هذه التحولات، مازالت التقاليد تفرض حضورها القوي بوجوه متعددة، فبعض الأسر تخشى أن تُصاب ابنتها بجرح نفسي إذا رُفضت بعد لقاء قصير، فتغلق أمامها أبواب التعارف المشروع، وكأنها تحميها بالعزلة، وأسرة أخرى تغالي في الشروط والمظاهر، فتضع على كاهل الخاطب أثقالاً من المهور الباهظة، والحفلات المكلفة، والتجهيزات المبالغ فيها، حتى يتحول الزواج إلى مشروع مرهق لا يقدر عليه كثير من الشباب. وهنا من يرى أن مكانة العائلة واسمها الاجتماعي أهم من خلق الزواج أو استقامة الزوجة، فيتداخل الموروث القبلي مع الاعتبارات الدينية، ويصبح القرار أسيراً لمعادلات معقدة لا تمت بصلة إلى جوهر الزواج.

وفي الجهة المقابلة يقف الشرع الإسلامي واضحاً وصريحاً، يمنح الفتاة حقها في أن تُستأذن، ويحث على الاختيار المبني على الدين والخلق، لا على المال ولا على المظاهر، ومع ذلك يبقى التطبيق في واقعنا محكوماً بخلط كبير بين الدين والتقاليد، وبين الحرص والخوف، وبين الواقعية والمثالية. وهكذا يتحول الزواج من رحلة طبيعية نحو الاستقرار إلى معركة خفية بين الماضي والحاضر، وبين ما ورثناه من قيم وما نواجهه من تحديات، بين طمأنينة الأسرة وضغوط العصر. فكيف نعيد التوازن المفقود، ونحفظ قداسة هذا الميثاق وسط فوضى الطموحات والأوهام.

إن المتأمل في واقعنا اليوم يلحظ أن الزواج لم يعد قراراً فردياً بسيطاً كما كان، بل أصبح معادلة اجتماعية شديدة التعقيد تتداخل فيها أطراف متعددة. فالشاب حين يفكر في الارتباط لا يبحث فقط عن شريكة حياة، بل يجد نفسه أمام أسئلة متزاحمة: هل ستنال قبول أهله، هل تتوافق طموحاتهما ومساراتهما، هل ستنظر عائلتها إليه بميزان الدين والخلق، أم بميزان المال والمنصب. وفي الجهة الأخرى، تعيش الفتاة بين رغبة طبيعية في الاستقرار، وبين ضغوط عائلية تطالبها بالانتظار حتى يأتي ” العريس المثالي” الذي يجمع بين الجاه والمكانة والقدرة المادية، وكأن الزواج صفقة لا قرار مصيرياً يقوم على المودة.

هذه الضغوط تتضاعف مع تأثير الإعلام ووسائل التواصل التي ضخمت صورة الزواج، فحولته من مشروع إنساني قائم على المودة والتفاهم، إلى عرض استعراضي للصور والحفلات والمظاهر، وبات كثير من الشباب يرون الزواج عبئاً، مالياً ونفسياً أكثر مما هو بداية حياة، فيما تقع الفتيات بين مثالية حالمة لا وجود لها في الواقع، وبين شروط اسرية تجعل فرصهن أضيق يوماً ما بعد يوم، وهنا يختلط الحرص بالخوف، وتمتزج التقاليد بالدين، فتضيع الحدود بين الواجب والمبالغة بين الحماية والوصاية.

ومع ذلك، لا تخلو الساحة من قصص مشرقة، هناك أسر آمنت أن الزواج مشروع بناء لا صفقة تفاخر، فقبلت بشاب مجتهد ذي خلق، فكبر مع زوجته على بساط البدايات، وصنعا معاً مستقبلاً مستقراً، وفي المقابل نجد من أضاعوا سنوات طويلة بانتظار المثالية، ليكتشفوا أن الزمن لا يعود، وأن الأحلام التي لم تُترجم إلى واقع تتبدد مع مرور الأيام.

إن التحدي الحقيقي ليس في المفاضلة بين الماضي والحداثة، بل في البحث عن صيغة تعيد للزواج طبيعته الأولى، ميثاقاً للسكينة، لا ميداناً للمظاهر، وهذا يتطلب وعياً من الأسر لتخفيف الشروط والمطالب، وعياً من الشباب ليتحرروا من الصورة الخيالية و يقبلوا بالواقعية، وعياً من المجتمع ليستعيد ثقته بأن الزواج مشروع حياة، يقوم على الدين والخلق والمودة، أكثر مما يقوم على الحسابات المادية والاجتماعية.

الزواج في جوهره لم يكن يوماً معركة بين الماضي والحاضر، ولا ميداناً لصراع بين التقاليد والحداثة، بل هو ميثاق عظيم أراده الله ليجمع قلبين على المودة والرحمة، وليبني بيتاً يخرج أبناءً أصحاء نفسياً واجتماعياً، غير أن هذا الميثاق يفقد روحه حين تطغى المخاوف على الثقة، وتغلب المثالية الحالمة على الواقعية الممكنة، فيتحول الزواج من رحلة نحو السكينة إلى معضلة تحاصر الشباب وتثقل كواهل السر، وما أحوجنا اليوم إلى إعادة التوازن المفقود، أن نحفظ لتقاليدنا احترامها دون أن نجعلها قيوداً خانقة، وأن نستفيد من حداثتنا دون أن نحولها إلى سراب يخدعنا بالمظاهر.

إن الأسر مدعوة لأن تكون جسراً ييسر العبور لا جداراً يحجب الطريق، ترشد توجه دون أن تصادر الحق في الاختيار، وعلى الفتاة أن تدرك أن قيمتها لا تُختصر في قبول أو رفض خاطب، بل في شخصيتها وإيمانها بذاتها، وأن الحق الذي كفله لها الشرع يجعل قرارها معتبراً ومحترماً، وعلى الشاب أن يتخلى عن أوهام المثالية التي صنعتها الشاشات، وأن يوقن أن السعادة الحقيقية تُبنى بالجد والمشاركة والصبر، لا بالبحث عن صورة متخيلة لا وجود لها، ويبقى السؤال مفتوحاً أمامنا جميعاً، هل نملك الشجاعة لنصنع بيئة اجتماعية عادلة، تحترم الشرع وتحفظ العادات، وتتيح لأبنائنا فرصة واقعية للتعارف والاختيار بعيداً عن الأوهام الرقمية والمقارنات القاتلة. إن الجواب ليس بعيداً إذا تحررنا من عقدة المظاهر، وأعدنا للزواج مكانته كأقدس ميثاق، لا كمعركة بين الماضي والحاضر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى