أقلام

الهوية الوطنية والذاكرة التراثية في شعر شباب عكاظ. دراسة تحليلية لنصوص الشعراء الفائزين(الجزء الثالث)

محمود المؤمن

الركيزة الثالثة: سوق عكاظ

مدخل :

يُعدّ سوق عكاظ من أبرز معالم التراث العربي قبل الإسلام، فقد كان ملتقى للتجارة والسياسة، ولكن الشعر تصدّر مشهده، فصار رمزًا للهوية الثقافية وذاكرة للإبداع. عُرف بكونه حاضنة للمعلقات، ومنبرًا للنابغة وزهير وعنترة، وموطنًا للخطب الحكيمة مثل خطب قس الإيادي. جغرافيًا، ارتبط عكاظ بالطائف، فغدا المكانان معًا شاهدين على تمازج المكان والطبيعة والشعر. كما ارتبطت به رموز مثل الخيمة الحمراء (موضع التحكيم الشعري).

استحضر حسن طواشي (الطائف)، مجسّدًا خصوبة المكان وطعمه الشعري، ومظهّرًا انسجام الطبيعة مع الإبداع:

ها طائفَ الشِّعْرِ قَلبي تَاجُ سَوْسنةٍ

للنَحْلِ يُرْشَفُ من أعْمَاقهِ العَسَلُ

نما القَريْضُ على إكْلِيلهِ كَحَلًا

فجَاءَ يَهْمسُ مَا أوْحَى بهِ الكَحلُ

واستدعى إياد الحكمي ( الطائف)

، مبرزًا دوره في الإلهام الشعري والحضور الثقافي:

أو أنهُ الطائفُ الغربي مبتدرًا

أخرى الجهاتِ ولا ينفكُّ يَبتدِرُ

وقد أبرز حيدر العبدالله شخصية قس الإيادي، خطيب العرب في عكاظ، رابطًا بين التجديد الفني والأصالة التراثية:

يَا عُكَاظَ الفنِّ، أشْرِبْنَا مِنَ الْـ

ـفَنِّ تَجْديدًا، وأطْعِمْنا أصَالَة

لَمْ يَزَلْ (قِسُّ الإِيَادِيُّ) هُنَا،

طَيْفُهُ يَكْشِفُ للريحِ سِلالَهْ

واستدعى ناجي حرابة (عكاظ) مقرونًا بالخيمة الحمراء وجبل المشقر بالأحساء، كاشفًا عن تاريخٍ مشبع بالشعر والبطولات:

هُنَا الشِّعْرُ إِنْ أَوْرَتْ (عُكَاظٌ) نُجُومَهُ

يَتِيْهُ مَسَاءٌ في (المُشَقَّرِ) شَعْشَعَا

هُنَا (طَرْفَةٌ) في الشِّعْرِ يَدْفُنُ سِرَّهُ

فَيَحْفِرُ مِنْ (ذُبْيَانَ) شَيْخٌ لِيَطْلَعَا

وَمَا(الخَيْمَةُ الحَمْرَاءُ) في أُفْقِ دَارِنَا

سِوَى هَزَجِ التَّارِيْخِ بَاحَ فَأَسْمَعَا

وأعاد إياد الحكمي إلى عكاظ بهاءه، مستحضرًا صور النشوة والخصب والتجدد وكأنه خمرةً ثقافية تُسكر وتُنعش:

أدِرْ عُكاظَكَ نثملْ قدرَ شاهقةٍ

تُراقِصُ الغيمةَ الأشهى وتَعتَصِرُ

مما رحيلِكَ أَنفاسٌ لنا هُزِمَتْ

أمَا وقد عُدْتَ فالأنفاسُ والظَّفَرُ

وغاص علي الدندن في ذاكرة عكاظ الشعرية ليستدعي رموزها الكبرى:

أرى في عكاظِ البدءِ “نابغةَ” الذي

أحالَ رموشَ الحرفِ سقْفاً لخيْمَتِهْ

إذا مسَّت الرؤيا “زهيرَ” ببؤسِها

وراءَ تخومِ النفسِ يخلو بحِكْمَتِهْ

وبانتْ سعادُ الروحِ عن عينِ “كعبِــ”ها

فدانتْ سعادُ الشعرِ في نسجِ بُرْدَتِهْ

“وعنترةٌ” لم يحتَكِرْ قطّ حبَّهُ

فعبلةُ مُلكُ الأرضِ.. ليستْ بِعَبْلَتِهْ

أرى “مالكَ ابن الرّيب” يصقُلُ حرفَهُ

ليصطادَ عند الموتِ ظبيةَ مَوْتَتِهْ

خلاصة الركيزة الثالثة:

يمثل عكاظ في النصوص الشعرية الحديثة ذاكرة حية للتراث، مركزًا للشعر والحوار الثقافي، وميدانًا للبطولة والهوية العربية. أحيا استدعاء قس الإيادي البعد الخطابي والفلسفي، وجسّدت الخيمة الحمراء وظيفة النقد والإبداع، بينما أعادت استدعاءات كبار الشعراء حضورهم، فصار عكاظ جسرًا بين الماضي والحاضر وملتقى أبديًا للشعراء والأفكار

خاتمة المحور الثاني:

تؤكد النصوص أن الثراء التراثي ينبع من تداخل الشخصيات، والأماكن، والملتقيات الثقافية كعكاظ. الشخصيات تمنح التاريخ الوجه الإنساني والرمزي، والأماكن تجسّد القداسة والجمال والذكريات، بينما توفر الملتقيات الثقافية مسرحًا للإبداع والحوار الشعري. ويبرز الفعل الشعري هنا كعامل ديناميكي يحيي التراث، ويحوّله من مجرد ذكر إلى حضور حي يساهم في تكوين الهوية الثقافية العربية.

نتائج البحث:

1. جسّد الشعراء العلاقة مع الوطن من خلال الذاكرة الفردية التي تعكس تجربة ذاتية مشحونة بالحنين والانتماء، والذاكرة الجمعية التي تستحضر الأجداد والتاريخ والإرث المشترك

2. وظّفوا الشخصيات التراثية والدينية والأسطورية كرموز حية تستحضر القيم البطولية والمعاني الأخلاقية، وتعيد ربط الحاضر بامتداده التاريخي والرمزي

3. جعل الشعراء من المكان بعدًا دلاليًا يزاوج بين القداسة (مكة، الحراء) والجمال (الطائف، الجنوب) والإلهام (وادي عبقر، ذي قار، عكاظ)، فصار المكان مرآة للتاريخ والهوية.

4. مثَّل سوق عكاظ رمزًا ثقافيًا جامعًا في النصوص، فهو حاضنة للشعر والخطابة والحوار، واستدعاءه منح القصائد بعدًا تاريخيًا وحضاريًا يعيد وصل الماضي بالحاضر.

5. برزت ثنائية الغربة والانتماء بوضوح، حيث عبّر الشعراء عن ألم المنفى والاغتراب الروحي مقابل الحنين للأرض والتجذّر فيها.

6. أظهرت النصوص أن شعر شباب عكاظ لا يكتفي بالتعبير العاطفي، بل يتجاوز ذلك إلى بناء وعي شعري معاصر، يوازن بين الحس الوطني والبعد التراثي في إطار فني حديث.

خاتمة الدراسة:

تكشف هذه الدراسة أن شعر شباب عكاظ يمثّل تجربة شعرية واعدة تعكس التحولات الثقافية والفكرية في المملكة العربية السعودية. فمن خلال استدعاء التراث واستحضار الشخصيات والأماكن، وصياغة خطاب شعري يجمع بين الذاكرة الفردية والجماعية، نجح الشعراء في رسم صورة للوطن بوصفه فضاءً للانتماء والإبداع معًا. ويؤكد البحث أن نصوصهم لا تحافظ على الهوية الوطنية فحسب، بل تسهم في إعادة إنتاجها شعريًا، بما يجعل من الشعر أداة للوعي الجمعي ومجالًا للتعبير عن الذاكرة والهوية في آن واحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى