أقلام

رائد الكلى وذاكرة العطاء الصحي الدكتور صالح الشرفاء

عماد آل عبيدان

في سجلّ الوطن تبقى بعض الأسماء كأنها شواهد مضيئة على قدرة الإنسان أن يجعل من مهنته رسالةً، ومن علمه وطنًا، ومن كل دقيقة من عمره بذرة حياة جديدة. ومن بين تلك الأسماء يتلألأ الدكتور صالح الشرفاء، الرجل الذي أمضى أكثر من خمسة وثلاثين عامًا في محراب الطب، يكتب تاريخًا لا بالمداد، وإنما بدموع امهات هدأ خوفهن، وبابتسامات أطفال خرجوا من قسوة المرض إلى فسحة الرجاء.

الطبيب الإنسان: ميدان الكلى وزراعتها

منذ أن خطا خطواته الأولى في عالم الطب، كان الشرفاء على موعد مع أصعب الميادين وأكثرها دقة: أمراض وزراعة الكلى عند الأطفال، والتشوهات الخلقية في المسالك البولية. في أروقة المستشفيات، بين أجهزة الغسيل الكلوي وصوت الأجهزة الطبية، عاش مع الأطفال معارك صامتة ضد الفشل الكلوي، وفي كل مرة كان يزرع الأمل كما يزرع المشرط في يد الجراح معنى النجاة. لقد أصبح مشهد دخوله غرف الأطفال رمزًا للطمأنينة: طفل صغير ينام متصلًا بالأنابيب، وأمٌّ ترتجف خوفًا، فيقترب الطبيب بابتسامة تسبق كلماته، يربّت على كتف الصغير، ويُشعر الأم أن الأفق ما يزال ممتدًا، وأن الغد يمكن أن يكون أجمل.

لم يكن دوره مقتصرًا على علاج الحالات أو إجراء العمليات، فقد كان بناء مدرسة كاملة من الخبرة والمعرفة، ينقلها للأطباء الشبان ويصوغها في برامج توعوية. فقد آمن بأن الطب لا ينحصر في غرفة العمليات، وإنما يمتد إلى المجتمع؛ فالتثقيف والكشف المبكر والوعي جزء لا ينفصل عن العلاج.

ولعل من أبرز إنجازاته أنه كان من أوائل أطباء العالم الذين تمكنوا من إجراء الغسيل الكلوي للمواليد، بل وقد يكون الأول في غسيل الأطفال الخدّج، وكان رائدًا علميًا في مجال الغسيل البريتوني (الصفاقي) للأطفال. إن هذا العمل الجريء فتح بابًا جديدًا لطب الأطفال على مستوى العالم و لم يكن إنقاذًا لحياة فحسب. ويؤكد التاريخ أنه ساعد في إنشاء مراكز تدريب لطب الأطفال والكلى، وأشرف على تخرّج أطباء يحملون الزمالات الطبية العليا ممن صاروا استشاريين في تخصصات دقيقة داخل المملكة وخارجها.

قيادة عربية ودولية

لم يكتفِ الشرفاء بالريادة المحلية، لكنها امتدت بعطاؤه لتشمل الساحة العربية والدولية. فقد أسس الجمعية العربية لكلى الأطفال وترأسها لثماني سنوات (1998 – 2004)، ثم عمل أمينًا عامًا للجمعية العربية للكلى لأربع سنوات أخرى. كما ترأس الهيئة العالمية للمتلازمة الكلوية الدمية الانحلالية غير النمطية، وكان من أبرز من كشفوا أسرار هذا المرض النادر الذي كان قاتلًا، حتى ساعدت أبحاثه ومشاركاته في تحويل المعادلة، وفتح الباب لعلاجات فعالة غيّرت حياة المرضى حول العالم.

لقد مثّل العالم والعالم العربي في مؤتمرات عالمية كبرى، ونظّم وشارك في فعاليات علمية على مستوى دولي، وكان أحد الأسماء البارزة التي ساعدت في إنشاء وتطوير مراكز طب كلى الأطفال في عدد من الدول العربية. ويذكر التاريخ أيضًا أنه كان من الذين ساهموا في إنشاء شؤون أكاديمية في القطيف، ساعدت على تخرّج أطباء يحملون شهادات متخصصة عليا، كانوا بدورهم امتدادًا لرسالته العلمية والإنسانية.

من الكلى إلى شمس: توسيع الأفق

ولأن العطاء لا يعرف حدودًا، فقد وسّع الشرفاء دائرته عندما تسلم رئاسة الجمعية السعودية لرعاية ضغط الدم “شمس”. لم يترك جذوره في ميدان الكلى، لكنه أدرك أن الوقاية من أمراض الضغط – التي تُعد أحد أخطر مسببات الفشل الكلوي – هي امتداد طبيعي لرسالته. فجمع بين رسالتين متكاملتين: حماية الكلى عبر التشخيص والعلاج، والوقاية من ارتفاع ضغط الدم عبر التثقيف والتوعية.

في رئاسته لـ “شمس” أعلن هدفًا وطنيًا طموحًا: خفض نسب الإصابة بارتفاع ضغط الدم بنسبة تصل إلى 30% بحلول عام 2025. هذا الإعلان كان خطة متكاملة تشتمل على الكشف المبكر، تحسين القياسات، إدماج الذكاء الاصطناعي في التحليل الطبي، وتنظيم مؤتمرات عالمية لا مجرد رقم. ومن أبرز تلك المبادرات المؤتمر السعودي العالمي الأول لارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال واليافعين، حيث جمع خبراء من مختلف أنحاء العالم، وطرح فيه استراتيجيات شاملة للتعامل مع هذا الداء الصامت.

إنسانية لا تُختزل

ومع كل هذه الإنجازات، يبقى الجانب الإنساني هو الأوضح في ملامحه. ففي المؤتمرات، يقف شامخًا، صوته هادئ لكنه نافذ، كأنه يزرع الطمأنينة قبل أن يغرس المعلومة. وفي الممرات الطبية، حين يقترب من أسرةٍ يلفّها القلق، أو من طفل تلاعب المرض بأيامه، يبدو حضوره أشبه ببلسم يسبق أي علاج. هذه التفاصيل الصغيرة، هي ما جعلت المجتمع لا ينظر إليه طبيبًا فحسب، إنما رفيقًا صادقًا في رحلة الألم والرجاء.

أثر وطني عميق

لقد مثّل “شمس” في توقيع اتفاقيات تعاون، وأشرف على حملات تطوعية للكشف المبكر، مؤكّدًا أن القيادة الصحية مشروع حياة لا وظيفة. وهو حتى اللحظة لم يتقاعد، فما زال حاضرًا في الساحة، يخطط، يقود، ينشر الوعي، ويستنهض الهمم. إن وجوده بهذه الحيوية يعكس رسالة عميقة: أن الطب لا يعرف التقاعد، وأن القلب الكبير لا يتوقف عن العطاء.

ولأن المجتمع يقيس قيمة أبنائه بما يتركون من أثر، فإن الشرفاء أصبح عنوانًا للأمن الصحي والثقة الوطنية. إن إنجازاته في مجال الكلى، وفي التوعية من ضغط الدم، وفي قيادته للجمعيات العربية والدولية، هي قصص تتكامل لتصوغ أيقونة وطنية متفرّدة. قصة طبيب أنقذ آلاف الأطفال، وقصة قائد جعل من التثقيف أداةً وطنية تحمي الملايين، وقصة رائد عالمي ساعد في تغيير خارطة علاج أمراض كانت تُعد قاتلة.

أيقونة وطنية وشهادة وفاء

لقد علّمنا الدكتور صالح الشرفاء أن الطب هو بناء للوعي، وصناعة للأمل، وإحياء للكرامة لا علاجًا فحسب. هو رائد الكلى ورائد التوعية، قائد ورمز قبل أن يكون استشاريًا. يظل اسمه يتردّد في المجالس والمنتديات والإعلام، قصة وطنية من قصص الفخر، وصفحة مضيئة في ذاكرة المملكة والعالم العربي.

وإني إذ أكتب عنه اليوم، لا أكتب عن طبيبٍ فحسب، أكتب عن ذاكرة وطنية تستحق أن تُرفع لها القبعة، وعن إنسان تتعلم منه الأجيال أن العطاء لا يُختزل في منصب ولا يتوقف عند باب. إنها شهادة وفاء من مجتمع يفاخر بك يا دكتور صالح، ويقول لك: شكراً لأنك جعلت من العلم رسالة، ومن رسالتك حياة.

المصادر الموثقة

• من هم – السيرة المهنية للدكتور صالح الشرفاء

https://manhom.com/صالح-الشرفاء

• صحيفة بشائر – المؤتمر العالمي الأول لارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال واليافعين

القطيف: الشيخ التركي يرعى افتتاح “رند الثالث الطبي” .. والدكتور الشرفاء يؤكد: هذه أحدث عيادة رقمية للأسنان والجلدية والتجميل

• القطيف اليوم – نشاطات الجمعية السعودية لرعاية ضغط الدم

https://alqhat.com/q/422044

• صحيفة وطن نيوز – المؤتمر السعودي العالمي الأول لارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال واليافعين

https://www.watannews-sa.com/archives/276675.html

• موقع أشجان الفن – تصريحات رئيس الجمعية السعودية لرعاية ضغط الدم

https://ashjan-fn.com/رئيس-الجمعية-السعودية-لرعاية-ضغط-الدم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى