أقلام

رحيل حرم المرجع الأعلى السيد السيستاني، من الطهر إلى الخلود

د. حجي الزويد

الفقد ليس حدثًا عابرًا، بل جرحٌ يتعمّق في النفوس، وظلٌّ من الحزن يخيم على القلوب. رحلت الفقيدة الطاهرة، حرم المرجع الأعلى سماحة السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه)، سليلة بيت العصمة، ورفيقة درب المرجعية العليا، لتترك وراءها أثرًا لا يُمحى وذكرى لا تُنسى.

كانت في حياتها رمزًا للصبر والرضا، جمعت بين سكينة الروح وقوة الإيمان، وكانت سندًا وركنًا ثابتًا لبيتٍ طالما حمل على عاتقه هموم الأمة. هي الأم التي احتضنت أبناءها بحنانها، والزوجة الوفية التي شاركت رفيقها طريق الدعوة والعلم، والصابرة التي ربطت على قلبها في الليالي الطويلة، لتغدو قدوةً في التضحية والإيثار.

حين اشتدّ المرض في عام 2019، لم يكن لها مكانٌ خاص أو جناحٌ مميّز، بل دخلت المستشفى الحكومي مع بقية الناس، لتكون درسًا بليغًا في التواضع والعدالة. نقل الأطباء وصية السيد محمد رضا وهو يقول: “لا نريد تمييزًا ولا استثناءً، بل نحن وأنتم سواء أمام الله”، فغدت الفقيدة حتى في مرضها مرآةً تعكس القيم الأصيلة للمرجعية التي لم تُفرّق يومًا بين غني وفقير، ولا بين عظيمٍ وبسيط.

في صالة الانتظار جلس السيد محمد باقر – نجل المرجع الأعلى – شأنه شأن كل من ينتظر دوره، لا امتياز ولا استثناء، بل التزام بالنظام وتواضع لا يعرف الحدود. ذلك الموقف لم يكن تفصيلًا عابرًا، بل صورةً خالدة تُسطّر أن المرجعية العظمى لم تكن يومًا وجاهةً دنيوية، بل قدوة في العدل والإنصاف، وتجسيدًا عمليًا لسيرة أهل البيت عليهم السلام.

رحيلها لم يكن نهايةً، بل امتدادًا لمعنى الطهر الذي نشأت فيه. رحلت في ليلةٍ مؤلمة، ليلةٍ اقترنت بذكرى استشهاد جدتها الزهراء عليها السلام، وكأن الأقدار شاءت أن يجتمع الطهر بالطهر، والفقد بالفقد، ليبقى صدى الحزن مضاعفًا في القلوب.

الفقيدة في بيتها صابرةٌ محتسبة، رفيقةٌ للعلماء، مربّيةٌ للأجيال، وحاضنةٌ للأمانة الثقيلة التي ورثتها عن جدّاتها الطاهرات. لم تترك الدنيا خاوية، بل تركت إرثًا من المواقف والقيم، يروي للأجيال القادمة أنّ العظمة ليست في الألقاب، بل في صفاء الروح ونقاء السيرة.

رحيلها امتحان للقلوب، ولكنه أيضًا دعوة للتأمل والاقتداء. حضورها بين الأحياء لم ينقطع، فهي باقية بما غرسته من رحمة، وما قدّمته من عطاء، وما جسّدته من ثبات.

قبرها روضة من رياض الجنة، وثوب الرحمة يجلّلها، ومقعد الصدق عند مليك مقتدر يليق بروحها. سيرة الفقيدة تبقى منارةً للأمة، وأثرًا خالدًا في سجل الخلود.

الفقد عظيم، ولكن العزاء أعظم، إذ يورث الرحيل دروسًا تُعلّم أن الطهر باقٍ، وأن العدل ممتد، وأن المرجعية لا تقوم إلا على الصبر والتواضع والإيثار

في محراب الفقد… تتلألأ سيرة الزهراء

في حضرة الفقد، يسكن الصمت ثقيلًا،

وتتدافع الدموع كأنها بحرٌ من لوعة،

السماء تميل حزنًا، والأرض تئنّ بوجعٍ مكتوم،

رحلت رفيقة الدرب، ظلّ الطهر، صديقة الصبر،

تركت خلفها عبقًا لا يزول، وأثرًا لا يُمحى.

يا سليلة البيت العلوي، يا زهرة نبتت في روض الولاء،

كنتِ المأوى والسكينة، وكان فيكِ طهر الزهراء انعكاسًا،

رحلتِ في ليلةٍ تشابهت مع ليالي الألم،

ليلة استشهاد جدّتك فاطمة،

كأن القدر أراد أن يجمع بين الروحين في محرابٍ واحد.

أيّها الحاضرون عند نعشها،

رأيتم كيف طوى السيد أبناءه في بحر التواضع،

لا تمييز، لا امتياز،

المرجعية في حُكمها كالماء: يبلّل الجميع بعدل،

والفقيدة بين المرضى، لا فرق إلا بميزان السماء.

يا من ودّعتِ الدنيا بهدوء،

كنتِ رفيقة صبرٍ طويل، ورفيقة علمٍ عظيم،

كنتِ ظلًّا رحيمًا، ويدًا تربّت على القلوب،

واليوم، تغادرين بسلام، لتكوني عند ربٍّ كريم.

سلامٌ عليكِ يوم ولدتِ طاهرة،

ويوم عشتِ صابرة،

ويوم رحلتِ شاهدة على معنى التضحية،

رحمك الله رحمةً واسعة،

وجعل مثواكِ في رياض الخلود،

مع جدّتك الزهراء، وأمك الطاهرة، وأهل البيت الأطهار.

الفقد عظيم، ولكن العزاء أعظم،

أنّكِ رحلتِ ووراءكِ سيرةً تعلّمنا أن الحب عطاء،

وأن الوفاء ميراث،

وأن الموت ليس فناءً، بل لقاءٌ مع الخلود.

رحلتِ… والنجف اليوم تبكيكِ،

والقبابُ تنحني خاشعةً لظلّكِ،

يا حرمَ المرجع الأعلى،

يا رفيقةَ السيد علي الحسيني السيستاني،

يا سكنَ البيت الطاهر،

وملاذَ الرحمة في الليالي الموحشة.

كنتِ ظلًّا صبورًا،

ترافقين خطواته المثقلة بحمل الأمة،

وتحرسين في صمتٍ بيت المرجعية،

كأنكِ جدارٌ من دعاء،

وكأنكِ نورٌ من صبرٍ ووفاء.

لم تُزيّنكِ الألقاب،

بل زيّنكِ طهر الروح،

ولم ترفعكِ المناصب،

بل رفعكِ صدق الانتماء إلى مدرسة الزهراء،

مدرسة الصبر والإيثار،

مدرسة البذل بلا ضجيج،

والعطاء بلا انتظار.

في عام المرض، دخلتِ المستشفى،

لم يُفتح لكِ جناحٌ خاص،

لم يُفرش لكِ طريقٌ استثنائي،

كنتِ بين الناس واحدة،

درسًا في المساواة،

مرآةً تعكس عدل البيت العلوي،

رسالةً تقول إن العظمة في التواضع،

وأن المرجعية ليست سلطة،

بل قدوة.

في صالة الانتظار جلس نجل المرجع،

كأي مراجعٍ عادي،

لا امتياز… لا تمييز،

إنما التزامٌ بالنظام،

وتواضعٌ يصافح الأرض قبل السماء.

كان المشهد لوحةً للزهد،

يكتبه التاريخ بحبرٍ من نور.

رحلتِ في ليلةٍ مثقلة بالرمز،

ليلةٍ التقت فيها شهادتكِ مع ذكرى استشهاد الزهراء،

كأن الأقدار نسجت خيوط الفقد لتضاعف اللوعة،

وتعلن أن الطاهرات يرحلن في مواقيت الطهر،

ويتركن وراءهن أثرًا لا يزول.

كنتِ في حياتكِ أمًّا رؤومًا،

وزوجةً وفية،

وصابرةً على ثِقل الطريق.

كنتِ دعاءً يرافق خطوات العلماء،

وطمأنينةً تحرس بيت المرجعية،

وعنوانًا لصبرٍ طويل لا ينكسر.

رحلتِ… لكنكِ باقية،

في القلوب التي عرفت حنانكِ،

وفي الأرواح التي رأت طهركِ،

وفي الدروس التي علمتِها بصمتكِ،

أن الوفاء حياة،

وأن الصبر خلود.

سلامٌ عليكِ يوم ولدتِ طاهرة،

ويوم عشتِ وفيةً،

ويوم رحلتِ شاهدةً على معنى التضحية.

سلامٌ عليكِ في حضرة جدّتكِ الزهراء،

وفي مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر،

حيث لا حزن ولا لوعة،

بل رحمة وخلود،

وظلالٌ من نورٍ لا ينطفئ.

هكذا، تبقى سيرتكِ مرثيةً حيّة،

تروي أن الطهر باقٍ ما بقيت الأرض،

وأن العظمة ليست في الجاه،

بل في التواضع والصبر والإيثار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى