أقلام

عندما يصبح الفرح عبئًا

على آل ثاني

كيف أرهقت العادات الاجتماعية الحديثة ميزانية الناس؟

في الماضي، كانت أفراح الزواج ومناسبات استقبال المواليد لحظات من الفرح العفوي، تُعانقها البساطة والمحبة الصادقة. لم تكن الكاميرات الاحترافية أو الهدايا الباهظة هي ما يحدد قيمة المناسبة، بل كانت الضحكات المتبادلة والتهاني القلبية هي أغلى ما فيها. اليوم، تغير المشهد. تحولت هذه المناسبات إلى عروض اجتماعية تتطلب ميزانيات ضخمة، حيث أصبح الفرح مقترنًا بالبذخ، وباتت القيمة تقاس بمدى فخامة الترتيبات وليس بصدق المشاعر.

الأعراس وهوس للكماليات والمظاهر:

الزواج حدث مهم في حياة كل إنسان، وهو ليس مجرد ارتباط بين شخصين، بل هو احتفال كبير تشارك فيه العائلتان والأصدقاء وعامة المجتمع. ولكن في الآونة الأخيرة، تحول هذا الاحتفال إلى هوس للكماليات والمظاهر، مما أدى إلى زيادة الضغوط المادية والنفسية على العريسين وعائلاتهما.

كان الزواج احتفالًا يشارك فيه الجميع ببساطة، حيث تقتصر التكاليف على ما هو أساسي لبناء أسرة جديدة. أما اليوم، فصارت الأعراس أشبه بـمشروع تجاري ضخم، تبدأ رحلته قبل الزواج بأسابيع وربما أشهر. تبدأ القصة بميزانيات خيالية لقاعات الأفراح الفاخرة، التي لم تعد مجرد مكان للاحتفال، بل رمز للمكانة الاجتماعية. يُضاف إليها فستان الزفاف الذي يُكلف ثروة وكأنه قطعة فنية لمرة واحدة في العمر، والتجهيزات التي تُحجز بأسعار فلكية من كوشة العروس ” وتصاميم الزهور والديكورات والتي يجب أن تكون فريدة من نوعها.

هذا الضغط المالي لا يقع فقط على العروسين، بل يمتد ليشمل الأقارب والأصدقاء الذين يشعرون بضرورة تقديم هدايا قيمة تتناسب مع حجم المناسبة، وكأنها ضريبة اجتماعية يجب دفعها. هذه الالتزامات المالية المتزايدة تؤدي إلى ديون متراكمة وضغط نفسي هائل يطغى على الفرحة المفترض أن تكون محور هذه اللحظة.

الولادة: من استقبال بسيط إلى استعراض وتنافس اجتماعي.

لا تختلف مناسبة استقبال المولود الجديد كثيرًا عن الأعراس في هذا السياق. فبعد أن كان الأمر يقتصر على زيارة الأهل والأصدقاء لتقديم التهنئة والدعم، أصبح “استقبال المولود” مناسبة كبرى تُقام في المستشفيات أو المنازل، وتتضمن تجهيزات تفوق الوصف من عدة شهور.

تُخصص ميزانيات ضخمة لتزيين غرف المستشفى بطريقة احترافية، وكأنها مسرح مصغر، وتقديم أنواع فاخرة من الضيافة والحلويات، وتوزيع هدايا تذكارية باهظة للزوار. هذا التحول من البساطة إلى البذخ يجعل من الفرحة العائلية الخاصة مناسبة عامة للتنافس على من يستطيع إقامة حفل استقبال “أكثر تميزًا” هذا لا يضيف فقط عبئًا ماديًا على الأبوين، بل قد يفوّت عليهما فرصة التركيز على اللحظات الأولى مع مولودهما بسبب انشغالهما بالترتيبات الاجتماعية لاستقبال الزوار.

بل يفرض عليهما أعباء جسدية ونفسية هائلة. فبدلًا من التركيز على الرعاية بالطفل الحديث الولادة والتعافي بعد الولادة، تُصبح الأولوية للإعداد لحفل قدوم المولود. هذا التجهيز المجهد قد يستمر لعدة أيام، فمع فتح أبواب المنزل لاستقبال الزوار بشكل متواصل، يتحول المنزل إلى ما يشبه قاعة استقبال دائمة،

مما يزيد من الإرهاق ويحرمهم من فرصة الاستمتاع بلحظاتهم الهادئة والخاصة مع مولودهم. قد تضطر الأم والأب إلى قضاء ساعات طويلة في الترتيب والتنسيق، وربما يستأجرون خدمًا لهذا الغرض، مما يزيد من العبء المادي والبدني عليهم.

التصوير والمبالغة وانتهاك الخصوصيات في منصات التواصل الاجتماعي:

من أبرز مظاهر هذا الهوس الاجتماعي هو البذخ غير المبرر في التصوير والهدايا، إلى جانب هوس التوثيق والنشر على منصات التواصل الاجتماعي مثل سناب شات وتوك توك. لم تعد الكاميرا مجرد وسيلة لتوثيق اللحظات، بل أصبحت أداة لإظهار التكلفة والمكانة الاجتماعية.

ويتم استئجار مصورين بأسعار فلكية لتوثيق كل تفصيل، من تفاصيل التجهيز وحتى لحظات الاستقبال، ليس للاحتفاظ بها كذكرى، بل لـنشرها على منصات التواصل الاجتماعي كنوع من الاستعراض.

الأمر لا يتوقف عند الضغط المادي، بل يمتد إلى انتهاك خصوصية الأسرة. يتم عرض تفاصيل دقيقة عن أفراد العائلة، والأطفال، وحتى ديكورات المنازل، إن هذا الاستعراض العلني لخصوصيات الأسرة قد يفتح بابًا من الشر لا يُغلق، ويسلبه سكينة الروح وطمأنينة القلب، فينتهي به المطاف إلى انكسار نفسي أو متاهات أمنية لا قرار لها، أو حتى فقدان الشعور بقدسية اللحظات العائلية الخاصة التي كان يجب أن تبقى محصورة داخل جدران المنزل أو العائلة.

الهدايا كذلك، لم يعد التفكير في قيمتها المعنوية هو الأساس، بل أصبحت المنافسة على من يقدم الأغلى والأكثر فخامة والأعلى سعر. وهذه الهدايا قد لا تتناسب أحيانًا مع قدرات الشخص المالية، فقط لمجاراة العرف السائد، مما يحول الفرحة إلى ضغط، والبهجة إلى أصحاب المناسبة.

كيف نعيد للفرح جوهره وأصالته:

في خضم هذا السباق المادي، يبرز السؤال: هل يمكننا أن نعيد للفرح جوهره واصالته؟

إن الحل يكمن في إدراكنا أن القيمة ليست في التكلفة، بل في المحبة الصادقة التي تجمعنا. يمكننا أن نحتفل بالحب والترابط والمشاركة الوجدانية دون الحاجة إلى تكاليف باهظة.

يجب أن نبدأ كأفراد ومجتمعات في تبني فكرة أن القيمة ليست في التكلفة، بل في المحبة الصادقة التي تجمعنا. فدعوة بسيطة، أو هدية رمزية، أو حتى مجرد الحضور والمشاركة الوجدانية، قد تكون لها قيمة أكبر بكثير من أي حفل ضخم أو هدية فاخرة. لأن الفرح الحقيقي يكمن في بساطته، لا في ثمنه.

وفي النهاية، تظل دعوة للعودة إلى الأصالة. فالفرح الحقيقي لا يُقاس بميزانية الحفل، ولا بعدد الصور المنشورة، ولا بقيمة الهدايا المقدمة. إنه يكمن في بساطة اللحظات وصدق المشاعر التي تجمعنا، وفي الحفاظ على خصوصية العائلة التي هي أساس أي مجتمع. فلنحرر أنفسنا من عبء المظاهر الزائفة، ولنعد للفرح جوهره الحقيقي: المحبة الصادقة التي لا تُشترى بالمال.

كيف نبني فكرة الفرح الواعي؟

أول خطوة هي تغيير نظرتنا للمناسبة نفسها. يجب أن نتبنى فكرة “الفرح الواعي”، الذي يركز على الهدف الحقيقي من المناسبة.

. في الزواج، الهدف هو بناء أسرة متماسكة، وفي الولادة، الهدف هو الاحتفاء بقدوم فرد جديد للعائلة.

عندما نركز على هذه الأهداف، يصبح أي شيء خارجها مجرد تفاصيل يمكن الاستغناء عنها. هذا التوجه يساعد على تحريرنا من الضغط الاجتماعي الذي يدفعنا لتقليد الآخرين أو مجاراتهم في البروتوكولات المعقدة والبريستيج المزيف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى