أقلام

حينما يصبح الأب ضيفًا في بيتٍ بناه

سامي آل مرزوق

في زوايا البيوت التي بنيناها بأيدينا، يتسلل اليوم فيها صمت ثقيل لا يشبه السكون الطبيعي، إنه صمت الوحدة التي يعيشها كبارنا، أولئك الذين رفعوا أعمدة بيوتنا وحملوا أعباء الأيام، ليجدوا أنفسهم ضيوفًا في بيتهم غريبين عن ازدحام الحياة التي حولهم، كثيرًا ما نسمع عن المسن الذي ينام وحيدًا، أو الذي يجلس ساعات طويلة ينتظر زيارة لم تتحقق، أو عن كلمة أبي تقال له أو يد تمسك يده، وعيون لم تبصر احبائه. المسنن لا يحتاج الكثير، ولكنه بحاجة أن يشعر بأنه ما يزال جزءًا من العائلة، من هذا العالم، من هذا البيت.

في كثير من الأحيان يتحول الأب أو الأم إلى ظل بين الأثاث، وجودهم يُحتمل ولا يُحتفى به، لم تعد الأحاديث تدار حولهم، ولا الحكايات تُروى معهم، صاروا هادئين لا يطلبون ولا يشكون، يحاولون أن لا يكونوا عبئًا، حتى يختفي صوتهم وسط الزحام الذي لم يعد يسمعهم، حيث تكمن هنا القسوة والوحدة بحد ذاتها، بل في الشعور بالهجر وبكونك أصبحت غير مرئيّ في بيتك الذي ضحيت من أجله طول العمر. أن ترى أولادك يمرون بجانبك دون أن يلتفتوا، وأن تحاول أن تلامس أيديهم دون أن تجد ردًا.

كنت أتصفح كتاب للمفكر والكاتب الإسلامي محمد المحفوظ، المعنون “بالإسلام ورعاية المسنين”، حيث ركز الكاتب في الجانب العملي على أهمية دور الأسرة، باعتبارها، “المؤسسة الطبيعية الأولى لرعاية المسن، وأن المؤسسات الرعائية مهما بلغت من تطور لا تستطيع تعويض دفء الأسرة وتوفير الحنان، والاحاطة النفسية والاجتماعية التي يحتاجها الإنسان في هذه المرحلة” لذا يدعو الكاتب إلى “إعادة الاعتبار لدور الأسرة في الرعاية وإصلاح بنيتها، وتعزيز ثقافة البر وتفعيل التواصل بين الأجيال”.

فالعمر لا يقلل من حاجتنا للانتماء والدفء، بل ربما قد يزيدها ويعمقها، فالمسن بحاجة إلى ابتسامة تعيد إليه إحساسه بالقيمة، وإلى كلمة حانية تبدد عنه ظلال النسيان، وإلى احتواء يملأ فراغ أيامه. وإن غربة المسنين ليست مجرد غياب جسدي، بل جفاف الروح حين لا يُطلب وجودهم، ولا يُحتفى بحكمتهم، ولا تُشارك ذكرياتهم، فهم بذلك يتألمون، ويتأملون في صور الماضي كأنها آخر موطن، ويتمنون أن تعود تلك الأيام التي كان فيها البيت ملاذًا، لا مكان للصمت والبعاد.

علينا أن نتوقف قليلًا، ننظر لأمهاتنا وآبائنا، قبل أن يفوت الأوان، قبل أن يصبح حضورهم طيفًا، أن نزرع في بيوتنا ثقافة التقدير، لا المراعاة العابرة، وأن نعلم أبنائنا أن الكبار هم جذورنا، وأن حبهم ليس خياراً بل واجب.

علينا أن نتوقف قليلًا، ننظر لأمهاتنا وآبائنا، قبل أن يفوت الأوان، قبل أن يصبح حضورهم طيفًا. أن نزرع في بيوتنا ثقافة التقدير، لا المراعاة العابرة، وأن نعلم أبنائنا أن الكبار هم جذورنا، وأن حبهم ليس خيارًا بل واجب، فليس هناك من أعمق من دفء يد أب تشد يدك، ولا أصدق من عيون أم تراك بالم وحب، لنعد للمسنين ما فقدوه من مكانتهم في بيوتنا، فبدونهم لن تكتمل الصورة ولن يكتمل معنى البيت، ولن يزهر الحب بين جدرانه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى