أقلام

محاضرة فطرية الدين للشيخ محمد العبيدان

زاهر العبدالله

تمهيد

تُعدّ محاضرة سماحة الشيخ محمد العبيدان حول فطرية الدين من المحاضرات العميقة التي تناولت العلاقة الجوهرية بين الدين والإنسان، مبينة أن الدين لم يُشرَّع إلا من أجل الإنسان، وأن جوهر الدين منسجم مع فطرة الإنسان وتكوينه العقلي والروحي والجسدي.

سعى الشيخ في هذه المحاضرة إلى تحليل مفهوم الفطرة لغويًا واصطلاحًا، وبيان كيف أن الدين في جوهره استجابة طبيعية لحاجة الإنسان الفطرية نحو خالقه، وليس نتاج خوف أو موروث اجتماعي، كما زعمت بعض النظريات الحديثة.

المحور الأول : حقيقة الدين وتركيبه:

بيّن الشيخ أن الدين جُعل لخدمة الإنسان، وأن الإنسان مكوَّن من ثلاثة عناصر رئيسة:

1. الجسد – يخاطبه الدين عبر الأحكام الشرعية التي تضبط سلوك الإنسان وتوجّهه نحو ما ينبغي وما لا ينبغي.

2. الروح – يخاطبها الدين من خلال الأخلاق التي تزكّي النفس وتطهّرها من الرذائل.

3. العقل – يخاطبه الدين بالعقائد التي تؤسّس الإيمان والمعرفة بالله.

إذًا، كما أن الإنسان مركّب من جسد وروح وعقل، فإن الدين أيضًا مركّب من أحكام شرعية وأخلاق وعقائد، وبذلك يتحقق الانسجام الكامل بين الدين وبنية الإنسان.

المحور الثاني: مفهوم الفطرة ومعانيها

انتقل الشيخ بعد ذلك إلى المفردة المحورية في المحاضرة وهي الفطرة، موضحًا أن لها معنيين رئيسين:

أولًا : الفطرة في اللغة

هي الخلق والإيجاد والتكوين، كما في قوله تعالى:

﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

أي الخالق والموجد والمبدع.

ثانيًا : الفطرة في الاصطلاح

ذكر الشيخ أن الفطرة في الاصطلاح لها ثلاثة معانٍ رئيسة:

1. الفطرة العقلية البديهية:

هي الأمور التي يدركها الإنسان دون حاجة إلى برهان، مثل استحالة اجتماع النقيضين، أو أن الكل أكبر من الجزء.

هذه الفطرة تمثل قاعدة التفكير العقلي التي يُبنى عليها كل استدلال علمي وديني.

2. الفطرة الغريزية:

وهي القوى المزروعة في الإنسان منذ ولادته، كحب الذات، والرغبة في الخير، والميل إلى الجنس الآخر، وحب الاستطلاع.

وهذه الغرائز منها ما هو حيواني مشترك بين الإنسان والحيوان، ومنها ما هو إنساني خاص، كغريزة الفضول والرغبة في المعرفة.

وتمثل هذه الفطرة دافعًا نحو التطور والإنتاج والإصلاح.

3. الفطرة التكوينية الاجتماعية:

وهي حاجة الإنسان إلى غيره من أفراد المجتمع؛ إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان بمعزل عن الآخرين.

فاعتماده على غيره في الغذاء واللباس والعلاج يبرهن على أن الاجتماع الإنساني فطري، وأن التعاون من سنن التكوين.

وبذلك خلص الشيخ إلى أن الفطرة تمتد من العقل إلى الغريزة إلى الاجتماع، لتشكّل المنظومة التكوينية الكاملة في الإنسان.

المحور الثالث : فطرية الدين

بعد بيان حقيقة الدين والفطرة، طرح الشيخ السؤال الجوهري:

ماذا نعني بقولنا إن الدين فطري؟

ذكر الشيخ معنيين رئيسين لهذا المفهوم:

1. فطرية الدين بمعنى دافعية الفطرة نحو الدين:

أي أن الإنسان بطبيعته يتجه نحو الدين دون حاجة إلى تعليم أو توجيه، لأن الميل إلى الإيمان بالله مغروس في أعماق الفطرة الإنسانية.

واستشهد الشيخ بقوله تعالى:

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾

فالإنسان حين يتجه نحو الدين، إنما يستجيب لدعوته الفطرية.

وأورد روايات تؤكد أن الفطرة تعني التوحيد، منها قول الإمام الصادق (ع):

“يعني التوحيد، فطرهم جميعًا على التوحيد.”

وقوله (ص):

“ما من مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه.”

كما أشار الشيخ إلى ثلاث نظريات فلسفية تفسر فطرية التوحيد:

•النظرية الإدراكية: ترى أن التوحيد من البديهيات العقلية التي لا تحتاج إلى برهان.

• النظرية الإحساسية: تعد أن الميل إلى الله نابع من الإحساس القلبي، كما في رواية الإمام الصادق (ع) حين سأل الرجل: «هل ركبت السفينة؟… فإلى من تعلّق قلبك؟» فقال: «تعلّق بشيء» فقال: «ذلك هو الله».

•النظرية التفكيرية: تبيّن أن الله أودع في الإنسان أدوات التفكير التي توصله إليه من خلال التأمل في النفس والآفاق.

2.  فطرية الدين بمعنى انسجام الدين مع الفطرة:

أي أن التعاليم الدينية ليست غريبة عن طبيعة الإنسان، بل هي متوافقة تمامًا مع احتياجاته العقلية والروحية والاجتماعية.

فالدين لا يصطدم مع فطرة الإنسان، بل يوجّهها ويكملها.

سبب الدعوة إلى الدين رغم فطريته

تساءل الشيخ: إذا كان الدين فطريًا، فلماذا دعا الله الناس إليه؟

وأجاب بأن للأمر الإلهي بالدعوة إلى الدين هدفين رئيسين:

1.  إثارة الفطرة وتنشيطها بعد أن تُغطّيها الشهوات أو العادات الاجتماعية، كما قال الإمام علي (ع):

“ليُثيروا لهم دفائن العقول.”

أي ليُعيدوا الفطرة النقية إلى فاعليتها الأصلية.

2. إقامة الحجة على الإنسان، فلا يكون له عذر بعد ذلك في مخالفة الدين أو الإعراض عنه.

الخاتمة والنتائج

اختتم الشيخ محاضرته بالتأكيد على أن:

. الدين امتداد طبيعي للفطرة الإنسانية، وأن كل إنسان يحمل في أعماقه نزعة نحو الإيمان بالله.

•الفطرة هي البوابة الأولى لمعرفة الله، سواء عبر الفكر أو الإحساس أو التأمل.

•الدين ليس مفروضًا من الخارج، بل منسجم مع الطبيعة البشرية في كل مستوياتها.

. وبهذا تتضح وحدانية المصدر بين الدين والفطرة؛ فالدين جاء ليُهذّب الفطرة لا ليخالفها، وليقود الإنسان إلى كماله الحقيقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى