
عماد آل عبيدان
يوم المعلّم فسحة ضوء تستعيد فيها الذاكرة وجوهًا وأصواتًا، وتنبعث من القلب حكايات ممتدّة من مقاعد الطفولة إلى دروب الكهولة. إنّه وعدٌ بالوفاء، وعناقٌ بين الحرف الأول ومآلات العمر كلّه، لا مجرّد تذكار على ورق رزنامة.
يطلّ هذا اليوم ليمنح المعلّم والمعلّمة موقعهما الأصيل في الذاكرة والوجدان؛ فهما البداية التي لا تنطفئ، والامتداد الذي لا يزول أثره مهما امتدّت الأعوام. الحرف الأول الذي يُخطّ على يد معلم هو المفتاح لبابٍ واسع، والفكرة الأولى التي تُغرس في عقل طفل تتحوّل مع العمر إلى مصباح يقود دروبًا بعيدة.
المعلّم يترك أثره بهدوء يشبه تسلّل النسيم إلى الغصن، أو انسياب الماء في الجداول. يغيّر ملامح الداخل دون أن يرفع صوته، ويعيد تشكيل الروح بإيماءة أو بكلمة. ما يقدّمه لا يتوقف عند حدود المعرفة كونه يتعداها ليصوغ مواقف الإنسان وأخلاقه وعلاقته بالآخرين.
وهنا يسطع بيت أمير الشعراء أحمد شوقي كأنه خُلق لهذه المناسبة:
قُم للمعلّمِ وَفِّهِ التبجيلا
كادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا
أستعيد وجوهًا ما زالت حيّة في قلبي، رغم مضي العقود. أستاذي الفاضل عبدالواحد المزين “أبو محمد” حفظه الله، في سنوات الابتدائية، الذي جعل الأرقام قريبة مني كأصدقاء صغار، وكان بحنانه وخلقه أبًا قبل أن يكون معلّمًا. وأستاذي الفاضل محمد إبراهيم البحّار، “أبو محمود” رحمه الله، في المرحلة المتوسطة، الذي أكمل الطريق بحكمته وصبره وسموّ روحه. هذان الاسمان والمثالان يمثلان معنى أن يكون التعليم رسالة لا تنفصل عن الأبوة، وأن المعلّم حين يضع بصمته في قلب تلميذه، يبقى صوته حيًا حتى بعد رحيله.
الأثر الذي يتركه المعلم لا يذوب، فهو يتجدّد كلما واجهنا الحياة: قرارٌ نتّخذه بوعي، سلوكٌ يعبّر عن عدل، عبارة تُكتب بثقة، حضور قديم لمعلّم يعيش فينا رغم غيابه. وهنا تكمن عظمة الدور؛ أن يزرع إنسان كلمة فتتحوّل إلى شجرة وارفة تُظلّل أجيالًا لم يرها بعينيه.
وقد جاء عن الإمام عليّ عليه السلام قوله المشهور:
«مَن علّمني حرفًا كنتُ له عبدًا»
اليوم المخصص للمعلّم هو مساحة نراجع فيها أنفسنا: من أين جاءت بداياتنا، ومن فتح لنا الطريق إلى هذا الذي صرنا إليه؟ كل حجر في بناء الغد بدأ بيد معلّم، وكل نافذة على المعرفة انفتحت أولًا من سبّورة بيضاء، ومن قلب امتلأ بالعطاء.
وهنا نستحضر قول البحتري في أثر العلم وأهله:
العِلمُ يَرفعُ بيتًا لا عِمادَ لَهُ
والجهلُ يَهدِمُ بَيتَ العِزِّ والشَّرَفِ
ولعل المتنبي يلخّص ما يبذله المعلّم في بناء النفوس الكبيرة:
وإذا كانتِ النفوسُ كبارًا
تعبتْ في مرادِها الأجسامُ
كما يذكّرنا أبو العلاء المعرّي بقيمة الأمل والمعرفة التي يزرعها المعلّم فينا:
أُعَلِّلُ النَّفسَ بالآمالِ أرقُبُها
ما أضيقَ العَيشَ لولا فُسحةُ الأملِ
إنه يوم الامتنان، نعلن فيه أن جذوة المعلّم والمعلّمة تبقى متقدة، تنير العقول وتروي النفوس والأرواح، وتمنح هذا العالم معنى أوسع وأجمل. فما دام هناك تلميذ يستحضر اسمًا علّمه يومًا، فالنور ممتد، والعطاء حاضر، والذاكرة لا تغلق أبوابها.
فإلى أستاذي الفاضل عبدالواحد المزين “أبو محمد” حفظه الله، الذي غرس حبّ الرياضيات في نفسي صغيرًا، وإلى أستاذي الفاضل محمد إبراهيم البحّار “أبو محمود” رحمه الله، الذي أكمل البناء بعطفه ورزانته، وإلى كل معلم ومعلمة مرّوا في حياتنا ثم غابوا أو بقوا، أنتم الجذوة التي لا تخمد، والنبض الذي يتردّد فينا كلما واجهنا دربًا جديدًا.