أقلام

رحلة المعرفة: من الشك إلى اليقين

أحمد الطويل

تنويه:

هذه هي المقالة الرابعة من سلسلتنا الفكرية الأسبوعية، المستوحاة من الفصل الثامن من كتاب مدخل في نظرية المعرفة وأُسس المعرفة الدينية للأستاذ محمد حسين زاده (ترجمة السيد حيدر الحسيني). الإسلام والنجاة: الطريق إلى الخلاص الأبدي

بعد أن سرنا في المقالة الأولى بين متاهات القراءات المتعددة، وتوقفنا في الثانية أمام جدلية التعددية الدينية، وكشفنا في الثالثة الطريق الحق والمشروعية في الإسلام، نصل اليوم إلى منعطف جديد من الرحلة؛ إلى سؤال أكثر حميمية وعمقًا: من الذي ينجو يوم القيامة؟

وكيف يربط الإسلام بين معيار المشروعية وحقيقة العمل والخلاص الأبدي؟

هذه المقالة تمهّد لما بعدها، حيث سنغوص في المقالة الخامسة في أبعاد الرحمة الإلهية وعدالة الله سبحانه في مصائر البشر.

مقدمة:

تخيّل أنك ما تزال ذلك المسافر الذي عرف الطريق أخيرًا في المقالة الثالثة، حين انقشعت غشاوة السراب، ولامس النور وجه الصحراء. الطريق واضح، ولكنه طويل، والريح لا تزال تهبّ محمّلةً بالرمال والشكوك.

كل خطوة تثير فيك سؤالًا أعمق:

هل يكفي أن أعرف الاتجاه لأصل؟

هل النجاة وعدٌ يُمنح لمن عرف، أم لمن سعى، أم لمن أخلص في المسير؟

تسمع في داخلك صدىً خافتًا يقول:

الطريق لا ينجو فيه من عرفه، بل من سار فيه بثبات، ومن لم يكتفِ بالإيمان المجرد، بل مزجه بالعمل الصادق والنية النقية.

في تلك العزلة بين الصحراء والواحة، تدرك أن النجاة ليست مكانًا تُبلغه، بل حالة تُخلق فيك. إنها لحظة صفاء تتحد فيها المعرفة بالإخلاص، والعمل بالرحمة، والإيمان باليقين.

وهنا يتجلى المعنى الذي أعلنه القرآن الكريم: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً” (النحل: 97).

في تلك الحياة الطيبة يكمن سرّ النجاة، حيث يتحول الإيمان من فكرة إلى سلوك، ومن شعار إلى مصير.

الإسلام والنجاة: وحدة الإيمان والعمل

يقرر الإسلام أن النجاة تقوم على ثلاثة أركان مترابطة لا ينفصل أحدها عن الآخر:

الإيمان، والعمل الصالح، والإخلاص.

فالإيمان هو جذور الشجرة، والعمل الصالح هو أغصانها، والإخلاص هو الثمر الطيب الذي يُقبل عند الله.

لا يكفي أن نؤمن دون أن نعمل، ولا أن نعمل دون أن نخلص، كما لا ينفع الإخلاص إن لم يكن في سبيل الحق الذي أرسله الله.

قال تعالى: “وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ” (البينة: 5).

وفي روايات أهل البيت عليهم السلام تأكيد عميق على هذا التلازم. وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لا عمل إلا بنية، ولا نية إلا بالإخلاص، ولا إخلاص إلا بالتقوى»، فالنجاة ليست بكثرة العمل، بل بصفاء القصد وصدق الاتجاه إلى الله. أي أن العبرة ليست بالكثرة، بل بصفاء النية وحقيقة التقوى.

فالنجاة ليست تراكم أعمال ظاهرية، بل ثمرة صفاء داخلي يجعل العمل الصغير عند الله عظيمًا.

القرآن ومعايير النجاة: لا هوية دون إحسان

يرفض القرآن بشدة الادعاءات الوراثية في النجاة، كما واجه أوهام بني إسرائيل وأهل الكتاب حين قالوا: “وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ” (البقرة: 111–112).

بهذا يُعلن القرآن أن النجاة لا تُنال بالأسماء، بل بالاستسلام الحق لله، أي الإسلام بمعناه الجوهري، والإحسان في السلوك.

ليس الانتماء هو ما ينقذ الإنسان، بل أن يعيش انتماءه صدقًا وعدلًا وإخلاصًا.

النجاة والآخر: رحمة الله وعدله

من القضايا الحساسة التي يتناولها الفكر الإسلامي مسألة: هل يمكن لغير المسلم أن ينجو؟

يجيب القرآن والفكر الإمامي بوضوح وعمق:

إن الله لا يُعذّب إلا بعد إقامة الحجة، كما قال تعالى: “وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا” (الإسراء: 15).

فمن بلغه الحق واضحًا وجحده عنادًا واستكبارًا فهو من الهالكين بعدله تعالى، وأما من لم تبلغه الدعوة، أو بلغته مشوهة حتى لم يدرك حقيقتها، فهو داخل في رحمة الله وعدله، لا يُعامل معاملة المعاند.

وهكذا تتجلى رحمة الله في مقابل عدله، في توازن عجيب لا تمحوه التعددية الزائفة، بل يؤكده الإسلام نفسه بصفائه الإلهي.

بين المشروعية والنجاة: عدل في المعيار، رحمة في المصير

يُفرّق الإسلام بين المشروعية والنجاة:

المشروعية قضية عامة موضوعية تحدد الدين المقبول عند الله بعد بعثة النبي ﷺ وهو الإسلام،

أما النجاة فهي قضية فردية تتعلق بمصير كل إنسان بحسب إيمانه وعمله وما أقيمت عليه من الحجة.

بهذا التمييز البديع يحقق الإسلام توازنًا فريدًا:

فهو لا يساوي بين الأديان في حقيقتها، لكنه لا يغلق باب الرحمة على أحد في مصيره.

يجمع بين صرامة المعيار وعدالة الحساب وسعة الرحمة وهو ما نفتقده في النظريات التعددية التي تساوي بين الوحي والتحريف.

الخلاصة:

في المقالة الثالثة، وقفنا عند مشهد الطريق المستقيم وقد أضاءه الله بنور الهداية.

واليوم، في هذه المقالة الرابعة، نقترب من نهاية الرحلة لنفهم أن النجاة ليست مجرد معرفة الطريق، بل السير فيه بصدق وثبات، والعمل بخطوات تترك أثرها في صحراء الوجود.

النجاة مشروع عمرٍ من الإيمان والصدق والإخلاص، تتوّجه في النهاية رحمة الله التي وسعت كل شيء.

فلا ينجو أحد بعمله وحده، ولا يهلك أحد إلا بعد قيام الحجة عليه.

وما بين عدل الله ورحمته، يقف الإنسان حائرًا راجيًا، يرجو من الله أن يجعله من السائرين على الطريق حتى النهاية، حيث تشرق الواحة بنور اللقاء الأبدي.

اللهم أرنا الحق حقًا فنتبعه، وأرنا الباطل باطلًا فنجتنبه، وثبّتنا على صراطك المستقيم، واحشرنا مع محمدٍ وآل محمد، واجعلنا من الناجين برحمتك يا أرحم الراحمين.

المصادر والهوامش

1. القرآن الكريم

سورة النحل، الآية 97

سورة البينة، الآية رقم 5

سورة البقرة، الآية 111

سورة آل عمران، الآية 19

2. محمد حسين زاده، مدخل في نظرية المعرفة وأسس المعرفة الدينية

ترجمة سيد حيدر الحسيني، ج2، دار الهدى

3. نهج البلاغة

جمع الشريف الرضي، الحكمة 230

4. غرر الحكم ودرر الكلم

تأليف عبد الواحد الآمدي، الحديث رقم 10230

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى