
د. حجي الزويد
الدكتور علي محمد العيثان أول استشاري سعودي بوزارة الصحة في محافظة الأحساء،
حين تتقاطع الإنسانية مع العلم، وتلتقي الخبرة بالخلق، يسطع اسم الطبيب الإنسان. ومن هؤلاء الأفذاذ يبرز الدكتور علي العيثان (أبو حسن)، الذي أمضى أكثر من أربع سنوات من العطاء المتواصل في مستشفى المانع العام بالأحساء، ترك خلالها بصمة لا تُمحى من الإخلاص والمهنية الرفيعة.
رحيله عن المستشفى هو تحية امتنانٍ لمسيرةٍ من النقاء والتميّز، امتدت جذورها في أرض الطب وغصونها في قلوب الزملاء والمرضى.
ركن العلم والخبرة:
عرفه الأطباء المقيمون قبل أن يروه، وتحدثت عنه القاعات قبل أن يدخلها، فهو من أولئك الذين لا يدرّسون الطب بلسانهم فقط، بل بعقولهم وقلوبهم وتجاربهم.
يملك قوةً علميةً راسخة وتفكيرًا إكلينيكيًا دقيقًا، يجمع بين مهارة التشخيص وبصيرة التحليل، فيقف على سرّ المرض كما يقف العارف على سرّ الحرف.
في كل جولةٍ طبية كان يعلّم تلامذته أن “الطفل لا يُقرأ من التحاليل فقط، بل من ملامحه وأنفاسه ونبضه الصغير.”
كانت عبارته تلك تختصر فلسفة الطب الإنساني، الذي يدمج بين دقة العلم ودفء القلب.
المربي قبل الطبيب:
تخرّج على يديه عدد من الأطباء المقيمين الذين كانوا يستعدّون لنيل شهادة البورد السعودي في اختصاص طب الأطفال.
كان يرى فيهم أبناء علمٍ لا طلابًا عابرين، فزرع فيهم منهج التفكير النقدي، وحب البحث، والإخلاص في الممارسة.
وكان الأطباء يتنافسون على الحضور معه في الجولات الإكلينيكية، لما يجدونه من فيضٍ علمي، وحكمةٍ عملية، وسعة صدرٍ وهدوءٍ مهيب.
ولم يكن غريبًا أن يظلّ كثيرٌ منهم يذكرون دروسه بعد سنواتٍ طويلة، ويقولون:
“تعلمنا من الدكتور علي كيف نرى الإنسان قبل أن نرى المرض.”
مدرسة الأخلاق الرفيعة:
أخلاقه اقترنت باسمه، فصار ذكره مرادفًا للخلق الرفيع والتواضع الجمّ.
ابتسامته لا تفارقه، وكلماته تزنها الحكمة، وقراراته الإكلينيكية تفيض إنسانية ودقّة.
لم يكن طبيبًا متعاليًا بعلمه، بل متواضعًا بعطائه، قريبًا من زملائه وطلابه ومرضاه على السواء.
وقد أحبّه الأهالي كما أحبّه الزملاء، إذ لمسوا في شخصه الطبيب الأبوي الحنون، الذي يخفف الألم بابتسامةٍ قبل الدواء، ويزرع الطمأنينة في قلوب الآباء والأمهات قبل أن يكتب الوصفة الطبية.
أثره في المجتمع الطبي:
ما من قسمٍ مرّ به إلا وترك فيه أثرًا واضحًا.
وفي مستشفى المانع بالأحساء كان مرجعًا موثوقًا في طب الأطفال والعناية المركزة.
يشارك الزملاء في أدق الحالات، ويستقبل استشارات المقيمين بابتسامةٍ وشرحٍ موسّع، مؤمنًا أن المعرفة التي لا تُشارك تموت في صاحبها.
لقد جعل من التعليم الطبي شغفًا دائمًا، ومن تدريب الأطباء رسالةً مقدسة، فصار اسمه عنوانًا على العطاء الهادئ الهادف.
صوت التميّز في العناية المركزة:
تخصّصه في العناية المكثفة للأطفال جعله من الروّاد في هذا المجال على مستوى المملكة.
جمع بين مهارة القرار السريع، وعمق الفهم الفيزيولوجي للحالات الحرجة، فكان الطبيب الذي يُوازن بين سرعة الإنقاذ وحكمة التدخل.
يقول من عمل معه في تلك الوحدة:
“كنا نرى فيه سكينة الطبيب وثقة القائد، وصوت الخبرة الذي يوجّه ولا يأمر.”
من محطات مسيرته العملية:
قضى الدكتور علي العيثان قرابة خمسةٍ وثلاثين عامًا في خدمة وزارة الصحة، قدّم خلالها أروع صور التفاني والعطاء في مختلف المرافق الطبية، متنقّلًا بين ميادين العمل السريري والتدريب والتعليم، حتى غدا أحد الأعمدة الوطنية في طب الأطفال والعناية المكثفة.
وقد عُرف عنه الجمع بين الكفاءة العالية والخلق الرفيع، فكان الطبيب الأنموذج الذي تتغنّى به الأوساط الطبية.
بدأ مشواره في مستشفى الملك فهد بالهفوف، حيث صقلت التجربة الأولى مهارته السريرية وعمّقت بصيرته الإكلينيكية.
ثم انتقل إلى مستشفى الملك فهد للحرس الوطني بالرياض حيث حصل على الزمالة السعودية في اختصاص طب العناية المركزة لدى الأطفال فازدادت خبرته رسوخًا وتميّزًا، وتكوّنت لديه رؤية متكاملة تجمع بين الطب الدقيق والإنسانية الرفيعة.
بعدها عاد إلى مستشفى الولادة والأطفال بالأحساء، فكان حضورُه فيه قيمةً علمية وإنسانية مضافة، تركت أثرها في كل من عمل معه من الأطباء والممرضين وطلبة البورد السعودي.
وخلال تلك الفترة تولّى رئاسة وحدة العناية المركزة للأطفال، فأدارها بكفاءةٍ عالية، وأرسى فيها معايير مهنية راقية جمعت بين الانضباط العلمي وروح الفريق الإنساني، مما جعلها أنموذجًا يحتذى في الأداء والنتائج.
ثم اختتم مرحلة متميزة من مسيرته بعمله في مستشفى المانع العام بالأحساء لأكثر من أربع سنوات، وكان خلالها رئيسًا لقسم الأطفال، فقاد القسم بروح الأب الموجّه والمعلم المُلهم، وارتقى به علميًا وإداريًا، وأسهم في تطوير أداء الأطباء المقيمين والكوادر التمريضية، حتى غدا القسم من أكثر أقسام المستشفى انضباطًا وحيوية.
ولعل من أبرز محطات سيرته المشرّفة أنه أول استشاري سعودي لوزارة الصحة في محافظة الأحساء، وهو إنجازٌ يُسجَّل له ويُعدّ وسام شرفٍ في تاريخ الطب السعودي.
وفي كل محطةٍ من هذه المسيرة، جمع الدكتور علي بين الخبرة والإنسانية، فحوّل المواقف الصعبة إلى دروسٍ عملية، وغرس في من حوله قناعةً بأن الطب رسالة حياةٍ قبل أن يكون مهنة، وأن الطبيب الحقيقي يُقاس بما يزرعه من طمأنينة قبل ما يكتبه من وصفات.
منارة علمية للأجيال:
كان الدكتور العيثان من المنارات العلمية المضيئة التي تهدي طلاب البورد السعودي في طب الأطفال، ولا سيما في وحدة العناية المكثفة.
كان تعليمه يعتمد على التحليل والفهم لا على التلقين، وغالبًا ما يردد:
“من لم يتعلم كيف يقرأ المريض، فلن تفيده قراءة الكتب.”
فصارت كلماته هذه دستورًا علميًا يردده طلابه كلما واجهوا مريضًا في غرفة الطوارئ أو وحدة العناية.
حضور إنساني لا يُنسى:
لم يكن يمرّ في الممرات إلا وابتسامته تسبق خطاه.
ولم يُعرف عنه أنه تأخر عن نجدة مريض أو اعتذر عن حالة طارئة.
تجده في الصباح أول الحاضرين، وفي الليل آخر المغادرين، كأنّه نذر عمره ليكون إلى جوار من يحتاجه.
هو الطبيب الذي لا يقيس الوقت بالساعات، بل بنَبض الحياة الذي يسعى لإنقاذه.
محبة تحيطه من كل الجهات:
أحبه زملاؤه في العمل، وأحبه طلابه في التدريب، وأحبه المرضى في العلاج، وهذا الإجماع على المحبة لا يُمنح صدفة، بل يُكتسب بالصدق والتواضع والإخلاص.
فقد جمع بين الهيبة العلمية والبساطة الإنسانية، وبين القيادة المهنية والروح الأبوية، فاستحق احترام الجميع دون استثناء.
الطبيب الرسالي:
كان يرى في الطب رسالةً إنسانية ولا يراها وظيفة رتيبة، ويؤمن أن الطبيب الحقيقي هو من يعيد بناء الثقة بالحياة في قلب مريضه.
ولذلك ظلّ طوال مسيرته مثالًا للطبيب الرسالي الذي يسخّر علمه لخدمة الإنسان، ويزرع في تلامذته حبّ المهنة قبل البحث عن المناصب.
شهادة الزملاء والطلاب:
قال عنه أحد زملائه:
“كنا نتعلم من علي العيثان كيف يكون الطبيب تلميذًا للحياة، لا متعاليًا عليها.”
وقال آخر:
“علّمنا أن احترام المريض هو أول درسٍ في الطب، وأن العلم دون رحمةٍ فقد لروحه.”
تلك الشهادات التي تنبع من قلوبٍ عرفت الرجل عن قرب، هي أصدق من أي تكريمٍ مكتوب.
وداع المانع:
وحين حان وقت الوداع لمستشفى المانع، لم يكن المشهد فراقًا بل احتفالًا بالمسيرة.
امتلأت القلوب بمشاعر الوفاء، وتسابقت الكلمات لتُعبّر عن امتنانٍ صادقٍ لطبيبٍ ترك في كل زاويةٍ أثرًا وفي كل قلبٍ دعاء.
رحل جسدًا، ولكنه باقٍ أثرًا وذكرًا وقدوةً ومثالًا.
خاتمة الوفاء:
إن سيرة الدكتور علي العيثان تختصر معنى الطبيب الإنسان، الذي جمع بين العلم الراسخ والخلق الرفيع، وبين العطاء الصامت والإنجاز المضيء.
هو صوت العطاء الصادق في سماء صحة الأطفال والإنسانية، وواحدٌ من الرواد الذين رفعوا اسم الوطن في ميادين الطب والتعليم.
فله من الأحساء الشكر، ومن زملائه التقدير، ومن مرضاه الدعاء الذي لا ينقطع.
ويبقى أثره شاهدًا أن الطبيب الذي يزرع الرحمة لا يُغادر قلوب الناس أبدًا.
وكما وصفه الأديب السيد الدكتور عادل الحسين:
صَحَوْتُ عَلَى بُلْبُلٍ غَرَّدَا
يُنَادِي عَلِيًّا طَبِيبَ الْهُدَى
طَبِيبٌ يُدَاوِي صِغَارَ الْوَرَى
يُزِيحُ الْجَوَى عَنْهُمُ إِنْ شَدَا
فَذَاكَ ابْنُ عَيْثَانَ مَنْ يَرْتَجِي
شِفَاءً لِمَرْضَاهُ كَيْ يُسْعِدَا
رَأَيْتُ عَلِيًّا مَلَاكًا لِمَا
لَهُ مِنْ كَمَالٍ يَفُوقُ الْمَدَى
تَوَاضَعَ لِلَّهِ فِي عِلْمِهِ
فَمَنْ مِثْلُهُ يَعْتَنِي بِالرِّدَا
لَهُ فِي الْوَرَى بَسْمَةٌ حُلْوَةٌ
تُرِيحُ النُّفُوسَ وَتَجْلِي الصَّدَا
وَتَبْعَثُ فِي الصَّدْرِ أُنْسًا يُدَغْدِغُ-
الرُّوحَ كَيْ لَا يَسُودَ الرَّدَى
لِكُلِّ مَقَامٍ لَه بَصْمَةٌ
بِرَأْيٍ سَدِيدٍ يُنِيرُ الْغَدَا
وَيَجْلِي هُمُومَ الصَّدِيقِ بِنَظْرَةٍ-
مِلْؤُهَا الْحُبُّ حَيْثُ النَّدَى
وَلِلَّهِ وَقْتٌ بِقَامُوسِهِ
يُنَاجِيهِ لَيْلًا لِكَيْ يَرْفُدَا
لَقَدْ كَرَّسَ الْعِلْمَ وَالْجَهْدَ كَيْ
يُضِيءَ حَيَاةَ طَبِيبٍ بَدَا
إِلَهِي بِنُورِ الْحُسَيْنِ الَّذِي
أَضَاءَ الدُّنَا كُنْ لَهُ مُرْشِدَا
وَصَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى أَحْمَدٍ
وَآلٍ وَتَمِّمْ لَهُ الْمَقْصَدَا
نسأل الله التوفيق الإلهي المتواصل للدكتور علي في جوانب حياته كله، وأن يجعل مرحلة حياته القادمة امتدادًا لمسيرة حياته المشرقة بشتى ضروب العطاء العلمي والإنساني.