
أمير الصالح
إهداء:
أهدي هذا المقال لأبنائي ولأصدقائي القدامى والجدد
أبتسم عندما أسترجع بعض ذكرياتي في موضوع علاقتي ببعض الأصدقاء، وجنون التعلق بهم عندما كنت في مقتبل العمر؛ تكرار فراري من الحصص المدرسية معهم والتجول في الأسواق، وتفضيل أكل ساندويتش الفلافل معهم على أكل طعام المنزل مع الوالدين يومذاك؛ وحب التسكع معهم في الشوارع على الجلوس بالمنزل والتحضير لاختبارات المدرسة الفصلية. وأتأمل الآن ما آل إليه الوضع لتلكم العلاقة مع البعض منهم ، ولا سيما مع تقدم الزمن بنا وتناثرنا في الأرض وتفاوت طبيعة وظائفنا وتنوع حجم أعداد أولادنا. وأستحضر نصائح والدي- أدام الله بركاته- لي في تصويب وقتي وتركيز جهدي على الدراسة والعمل والارتباط بالأسرة مع ضرورة الاعتدال في ضبط العواطف نحو الأصدقاء. كبرت واستوعبت معظم حقائق تلكم النصائح الطيبة، وإن كنت بحمد الله محاط حينذاك بأصدقاء أوفياء وأتقياء؛ فلهم مني سلام وتحية وأبعث الأشواق. حديثًا قرأت بحثًا عن علاقة الصداقة والتغيرات التي تحدث لها مع تقدم العمر. وكانت دراسة محط إعجاب مني للباحثين، فأحببت أن أكتب مقالًا عنها.
لاحظت أن دائرة صداقاتي المقرّبة والخاصة تصغر مع تقدّم عمري ليس بسبب رحيل البعض منهم ولكن لتغير اهتماماتي واهتماماتهم وموقعي المهني والسكني وتمرجح مستواي المالي والرياضي وتغير معدل منسوب مشاركاتي ومبادراتي الاجتماعية كما هم. في بعض الفترات أتذكر أني كنت فيها محاطًا بعدد كبير جدًّا من الأصدقاء، إلا أنه ومع مرور الوقت تقلص العدد إلى أقل من عشرة أشخاص وأتنبأ مستقبلًا بان العدد سيكون في محور ثلاثة أشخاص فقط، بينما تحول البقية لمجرد أصحاب ذوي علاقات سطحية او مجاملات أو سراب ذكريات أو عابري سبيل أو علاقة تعاقدية مالية في نطاق تقديم خدمة أو وساطة أو إدارة مالية؛ هذا وأنا ما أزال في كامل عافيتي ولله الحمد وعمري يلامس الستين وأذهب لأماكن تجمع الناس وأزور المرضى وأتنقل بين المدن وأشارك الناس أفراحهم وأتراحهم.
الصداقة الصادقة لها عدة وظائف أو معان رئيسة، وقد يكون عدم استيفاء بعضها وتحققها هو ما يجعل البعض من الناس نبتعد عن البعض.
من تلكم الوظائف الرئيسة:
• الأمان العاطفي ( Emotional security ) خصوصًا عند المرور بتجارب صعبة أو نكبات قاهرة.
•تحقيق الذات Self-validation، أي أن أجد من يفهمني ويتوافق مع مبادئي ومعتقداتي دون شرح أو جدال أو استفزاز أو ضيقة خلق anxiety أو خوف أو توجس.
•التقارب والمشاركة Intimacy ، وهي القدرة على مشاركة الأمور الحساسة بصدق وأمان وطمأنينة.
ومن الضروري جدًّا أن تكون للفرد مرونة نفسية لتجاوز هكذا تغيير مع تقدم العمر وقلة المحيطين به من الأصدقاء المميزين. فإن الإنسان الأكثر نجاحًا في الحياة هو الأكثر مرونة لمتغيراتها؛ من الصحة النفسية أن نتعلم كيف نتجاوز صدمات تغير الأحوال، لا أن نعممها على بقية حياة الإنسان والانسحاب. اكتفي بهذا القدر ولمن يهتم بالدراسات البحثية في هذا المضمار أشير للاطلاع على الدراسة التي تصفحت بعض جوانبها:
frontiersin.org/journals/psych
للشباب رساله مفادها ما قاله أحدهم: أتمنى أن أجيد إعراب”الناس” كما أجيد إعراب حروف اللغة العربية، فلا أرفع إلا العظيم، ولا أضم إلا الصديق، وأميز صحيح البشر ممن في نفسه علة! فلو أني اتقنت أعرابهم من البدابة لما أضحيت مضافًا إلى سنين من الألم، ولكن الناس تأبى إلا أن تكون مبنية للمجهول، معطوفة على التوهم، مستترة لا تقدير لها!
الخلاصة : كلما كبرنا، كلما فهمنا أو فهم غالبيتنا أن الصداقات الثمينة تدوم بجودتها وليست بكثرتها. فاحرص على الجودة أكثر من الكم في العلاقات. وكلما كبرنا سنًّا كلما احتجنا لمن يحيطون بنا ممن يحبوننا ونحبهم.