
سامي آل مرزوق
ليس كل من يمشي حيًّا، وليس كل من يضحك سعيدًا، ثمة أناس حولنا يتحركون بأجساد حية، ولكن أرواحهم سقطت منذ زمن، من دون أن يلحظ أحد ذلك. يمارسون أعمالهم، يتحدثون، يردون السلام، وربما يضحكون مجاملة، ولكن في دواخلهم مساحة ميتة، صحراء من الأسى الجاف، وسماء لا تمطر فرحًا منذ زمن. إنهم الموتى الذين يمشون بيننا، لا يُبصرهم أحد، لا لأنهم مختفون، بل لأن الحياة انشغلت عن التقاط إشارات الاحتضار الداخلي التي يعيشونها كل يوم.
هل سبق أن رأيت إنسانًا بوجهٍ هادئٍ ونظرة مطفأة؟ شخصًا لا يغضب ولا يفرح، كأن تقلبات الحياة لم تعد تؤثر فيه؟ هذا ليس اتزانًا نفسيًّا، بل ذبولٌ صامت، نوع من الانكسار الذي لا يصرخ. بعضهم فقد شغفه، وبعضهم أُنهِك من كثرة المحاولات، وبعضهم ظل طويلًا في علاقةٍ سامة، أو وظيفة خانقة، أو بيتٍ لا يضيف له شيئًا سوى القهر. بعضهم استنزف نفسه ليسعد الآخرين فنسي نفسه، وبعضهم كان قويًّا دائمًا حتى انكسر بصمت لأنه لم يجد من يحمله حين تعبت أكتافه.
في هذا العالم، يُطلَب من الإنسان أن يكون منتجًا، ناجحًا، مرحًا، متماسكًا. لا أحد يسأل عن التعب، ولا عن الاحتراق الداخلي، ولا عن اللحظة التي توقف فيها الشعور بكل شيء. الناس يحبون الشخص الإيجابي، ويخافون الحزين، ويهربون من المتعب، ويُربكهم من لا يستطيع أن يشرح ما به. وهكذا، يمشي الموجوع بيننا، بابتسامةٍ خفيفةٍ، وجملةٍ محفوظة: “أنا بخير”، بينما هو، في الحقيقة، يعيش حياةً كاملة وهو يتمنى أن يشعر بشيء… بأي شيء.
هؤلاء لا يبحثون عن الشفقة، بل عن نظرةٍ إنسانية تُدركهم. عن أحدٍ لا يسألهم فقط: “كيف حالك؟”، بل يقول: “هل هناك ما يشغلك؟ هل تنام جيدًاً؟ هل سُمعتك اليوم كافية؟”. لا يريدون حلولًا، بل حضنًا رمزيًّا، اهتمامًا صادقًا، جملة تُقال من القلب: “أنا معك ولو بكلمة”. لأن كثيرًا من هذا الانطفاء الداخلي يبدأ حين يشعر الإنسان أنه وحيد، حتى وهو وسط الجميع. حين يتحدث فلا يُفهم، حين يُلمح فلا يُلتقط، حين يختبر انكساره الألف، ولا يلاحظ أحد أنهم كانوا حاضرين لجسده فقط، لا لروحه.
ولأننا نعيش زمنًا سريعًا، باتت مشاعرنا معلبة، وكلماتنا مستعارة، وحضورنا مشغول. لا وقت لسماع شكوى طويلة، ولا نية لفهم حزنٍ غير واضح السبب. نحن نريد من الآخرين أن يكونوا بخير فقط كي لا نضطر إلى الاقتراب، ولهذا نُسهم دون وعي في تعميق عزلتهم. كثيرون ممن ماتوا داخليًّا لم يحتاجوا أكثر من اهتمامٍ بسيط، سؤالٍ من قلب، لقاءٍ عابر يعيد لهم الإحساس بأنهم لا يزالون مرئيين.
في المدارس، ثمة طالب لا يشارك ولكنه لا يُشاغب، يغيب يومًا ولا يسأل عنه أحد. في البيوت، ابنٌ صامت لا يُزعج أحدًا، ولكنه لم يُحتضن منذ زمن. في أماكن العمل، موظف يؤدي واجبه بآليةٍ مكررة، بلا طموح ولا شكوى، فقط انتظار نهاية اليوم. في المجالس، صديق خافت، يبتسم، ولكنه لا يضحك من القلب. وفي الشوارع، كثيرون يمشون بخطى خفيفة، وكأنهم لا يريدون إزعاج الحياة بوجودهم.
والمؤلم أن بعض هؤلاء كانوا يومًا مشاعلَ نور، كانوا يُلهمون، يضحكون، يبدعون، ولكن الحياة لم تكن عادلة دائمًا. تساقطت آمالهم واحدًا تلو الآخر، وتراكمت خيباتهم دون أن تترك لهم مجالًا للوقوف من جديد. وعندما حاولوا أن يصرخوا، كان الصدى خافتًا. وعندما احتاجوا كتفًا، وُجهوا للمزيد من الاجتهاد والتحمل. فأثروا الانطفاء، لأن البقاء دون روح أسهل من خوض معركةٍ يومية مع عالمٍ لا يسمع سوى صوته.
ولكن، هل يُمكن للروح أن تعود؟ نعم. فالميت الداخلي لا يحتاج لمعجزة، بل إلى رعاية. إلى حضور مختلف، وصديق يُمسك اليد دون أن يُنقب في الوجع، وأخ يشارك الصمت لا يملأه بالكلام. إلى ربتة صادقة على الكتف تقول: “مهما كنت الآن، أنا أراك”، وإلى مجتمع يعيد تعريف القوة، لا كقدرةٍ على التحمل، بل كقدرةٍ على الاستعانة بالآخر.
إن أخطر ما في الانطفاء أنه لا يُرى، ولا يُحكى. ولذلك، على كل واحد منا أن يكون أكثر وعيًا بالذين حوله، أن يُنصت دون حكم، أن يتفقد دون إلحاح، أن يتذكر أن بعض الأرواح تموت وهي تبتسم، وأن بعض القلوب تحتاج فقط أن يشعر أحد بها لتُزهر من جديد.
فهل نحن نملك هذا النوع من الحضور؟ هل نحن أحياء في حياة من نحب؟ أم إننا نعيش بجوارهم فقط، دون أن نراهم حقًّا؟ وهل من شجاعة في أن نكون النور الخافت لمن غاب عنه الضوء؟
ربما لن نُعيد الأمل لكل الذين ماتوا داخليًّا، ولكن يكفي أن نُضيء شمعةً واحدة، في بيت واحد، في قلبٍ واحد… فبعض الأرواح لا تحتاج أكثر من هذا لتعود إلى الحياة.