أقلام

رحلة المعرفة: من الشك إلى اليقين(٢)

أحمد الطويل

الرحمة والعدل: سرّ التوازن الإلهي في مصائر البشر

تنويه:

هذه هي المقالة الخامسة من سلسلتنا الفكرية الأسبوعية، وهي تكملة طبيعية لما بدأناه في المقالة الرابعة حول النجاة والخلاص الأبدي، حيث ننتقل اليوم إلى تأمل أعمق في سرّ العدالة الإلهية والرحمة الربانية، وكيف يجتمعان في مصائر البشر دون تناقض. تمهّد هذه المقالة للدخول إلى الفصلين التاسع والعاشر من كتاب مدخل في نظرية المعرفة وأسس المعرفة الدينية للأستاذ محمد حسين زاده (ترجمة السيد حيدر الحسيني)، لنواصل الرحلة نحو الخاتمة التي تجمع بين المعرفة والحكمة، وبين العدل والرحمة في الفهم الإيماني العميق.

مقدمة:

تخيّل أنك وصلت إلى مشارف الواحة التي كنت تبحث عنها منذ البداية. الطريق كان طويلًا والريح قاسية والليل أرهقك بأسئلته، ولكن حين اقتربت، رأيت أمامك لافتتين متقابلتين على مدخل الواحة: على اليمين مكتوب “عدالة الله” وعلى اليسار “رحمة الله”. تقف حائرًا وتتساءل أي البابين تختار. وفي لحظة تأمل، تسمع صوتًا خفيًا يقول لك: “ادخل من كليهما، لأن العدل من رحمته، والرحمة عين عدله”. هنا تدرك أن الله لا يُقسم صفاته، ولا تتناقض أفعاله، بل كل صفاته تعمل في انسجام مطلق، كما يعمل الضوء والحرارة في الشمس معًا لتجعل الحياة ممكنة.

العدل الإلهي: ميزان لا يظلم أحدًا

العدل الإلهي ليس مجرد مفهوم نظري، بل هو قانون حيّ في الكون، دقيق إلى حد أن الله لا يظلم مثقال ذرة. يقول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” (يونس: 44). العدل هو الذي يمنح كل إنسان حقه بناءً على ما قدم من عمل وإخلاص، وهو الذي يحدد مسؤولية الإنسان تجاه نفسه والآخرين. من دونه، لما كانت الحياة عادلة، ولما كان لكل فعل عاقبة، ولما بقي معنى للخير والشر.

ولكن العدل وحده، لو تُرك دون رحمة، لأهلكنا جميعًا، لأننا جميعًا مقصرون مهما اجتهدنا. وهنا تظهر الرحمة الإلهية التي وُصفت بأنها سبقت غضبه، ووسعت كل شيء. فهي تمنح الإنسان فرصة للتوبة وللسعي المستمر، وتفتح أبواب النجاة أمام من أراد الصدق والإخلاص.

الرحمة الإلهية: فيض لا تحدّه الخطايا

الرحمة الإلهية لا تقتصر على مجرد العفو عن الذنوب، بل هي نظام كوني شامل يشمل كل الخلق منذ لحظة وجودهم. يقول الله تعالى: “وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (الأعراف: 156). الرحمة هي التي جعلت الله يرسل الأنبياء وينزل الكتب ويؤجل العقاب، وتستقبل التائب مهما بلغت خطاياه. “وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: “سبقت رحمتي غضبي”، فالغضب يمثل العدل تجاه المخطئين، أما الرحمة فهي وعد دائم للباحثين عن التوبة، تمنحهم فرص النجاة طالما أرواحهم تتنفس.

التوازن بين الرحمة والعدل

قد يظن البعض أن العدل والرحمة ضدّان لا يجتمعان، لكن الفكر الإسلامي، وخصوصًا مدرسة أهل البيت عليهم السلام، يوضّح أنهما وجهان لحقيقة واحدة. العدل يمنع الظلم، والرحمة تمنع القسوة، وعند اتساقهما يتحقق الكمال الإلهي في تدبير شؤون البشر. وقد لخّص الإمام علي عليه السلام جوهر هذا التوازن حين قال: “العدل أساسٌ به قِوامُ العالم” (نهج البلاغة، الحكمة 437).

فالعدل يقيم النظام ويحفظ الحقوق، بينما الرحمة كما علّمنا الإمام في قوله “ارحموا تُرحموا، واعفوا يُعفُ عنكم” تمنح دوام النعمة ولين القلب، فيجتمع في منهج الله العدلُ الذي يُقيم والرحمةُ التي تُديم.

ميزان الأعمال: كيف يوزن الله الأعمال؟

في يوم القيامة تُعرض الأعمال على الله في ميزان الحق. هذا الميزان لا يقيس الوزن بالمقدار فقط، بل بصدق النية وعمق الإخلاص. فرب عملٍ صغير ترفعه نيّة صادقة، ورب عبادة ضخمة تطيح بها رياء خفي. وقد جاء في معاني الروايات المروية عن أهل البيت عليهم السلام أن الله يحاسب العباد بعدله ويثيبهم بفضله، أي أن عدله يمنع الظلم، وفضله يفيض بما لا يُستحق إلا بعطائه ورحمته. أي أن العدل هو الحد الأدنى الذي يضمن ألا يُظلم أحد، بينما الفضل والرحمة يفيضان بما لا يُستحق إلا بالعطاء الإلهي.

هنا يظهر تأثير الفصول المتعلقة بنظرية المعرفة، إذ أن فهم الإنسان لواقعه وإدراكه لمحدودية معرفته، ووعيه بالحق والباطل، هو الذي يجعل الميزان دقيقًا، وقراره شخصيًا. فالمعرفة ليست مجرد معلومات، بل وعاء للنوايا والإرادة، ومن هنا يظهر تكامل العدل والرحمة مع مسؤولية الإنسان عن وعيه وسلوكه.

الإنسان بين الخوف والرجاء

الرحلة إلى الله لا تكتمل بالخوف وحده ولا بالرجاء وحده. الخوف يهذّب النفس من الغرور، والرجاء ينقذها من اليأس، وكلاهما جناحان يطير بهما القلب نحو الكمال. وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: “كُن على حذرٍ من الله بقدر قُدرته عليك، واستحيِ منه بقدر قُربه منك”، وهي حكمة تُعلّمنا أن نعيش بين الخوف والحياء والرجاء معًا.

وقال الإمام الصادق عليه السلام: “لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يكون خائفًا راجيًا، ولا يكون خائفًا راجيًا حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو”، لتكتمل معادلة الإيمان: معرفةٌ تقود إلى وعي، ووعيٌ يقود إلى عمل، وعملٌ يغمره أمل.

هنا يتجلّى التوازن الإيماني: أن ترى الله في عظمته فلا تغترّ، وفي رحمته فلا تقنط، وأن تحرك وعيك ومعرفتك لتصل إلى الصراط المستقيم.

الخلاصة:

في المقالة الرابعة أدركنا أن النجاة لا تُنال إلا بالإيمان والعمل والإخلاص، واليوم نكتشف أن هذا الإيمان لا يكتمل إلا إذا وُضع في ميزانٍ يجمع بين عدل الله ورحمته معًا. فلو حكم الله بعدله وحده لهلك الناس جميعًا، ولو برحمته فقط لبطلت الحكمة من الخلق. لكنه جمع بينهما ليكون عادلًا في الحساب، رحيمًا في القرار، فيتجلّى كمال الربوبية في توازنٍ يجعل المعرفة والوعي والعمل حلقاتٍ في منظومة واحدة.

هكذا يصبح العدل ميزانًا للحكمة، والرحمة روحًا للوجود، والمعرفة ضوءًا يقود الإنسان ليوازن بين الخوف والرجاء، بين العقل والقلب، بين الوعي والعمل.

وما أروع ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل:

“اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء، وبقوتك التي قهرت بها كل شيء، وخضع لها كل شيء، وذل لها كل شيء.”

ليكون الختام وعدًا بلقاء جديد في المقالة السادسة والأخيرة، حيث نصل إلى غاية الرحلة الفكرية: من الشك إلى اليقين، ومن البحث إلى البصيرة، ومن المعرفة إلى الحكمة.

اللهم اجعلنا من الذين جمعوا بين الخوف والرجاء، وبين العمل والإخلاص، واجعل عدلك رحمة لنا وفضلك يغمرنا، وثبّتنا على صراطك المستقيم، واحشرنا مع محمد وآله الطاهرين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

المصادر والهوامش

1. القرآن الكريم

سورة يونس، الآية 44

سورة الأعراف، الآية 156

2. كتاب “مدخل في نظرية المعرفة وأسس المعرفة الدينية”

محمد حسين زاده، ترجمة السيد حيدر الحسيني، ج2، دار الهدى، الفصل التاسع

3. نهج البلاغة

جمع الشريف الرضي، الحكمة 437

4. الكافي للكليني

ج2، باب الخوف والرجاء

5. دعاء كميل

عن الإمام علي عليه السلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى