
رباب حسين النمر
هل فكرت يومًا كيف لمقهى أن ينقلب إلى ساحة مدرسة تعج بالمعلمين وتلاميذهم الذين يرتشفون قهوة الذكريات، ويستحضرون كيف كان الدرس وكيف كانت السبورة، وكيف كانت صباحات الطابور، وإشادة بدور المعلم في صقل التلامذة واكتشاف مواهبهم وإبداعاتهم في مهدها، ثم صقلها وإبرازها. وكيف يتحول في لحظات قليلة إلى دكان من دكاكين الصاغة وورشة من ورش صياغة الذهب وكأنك تسمع فيها صوت النحت والطرق وتلمح لمعان الذهب، وتشم رائحة الأدخنة المنبعثة من تنور الصياغة، في تشبيه أخاذ لصياغة الحرف والكلمة بصياغة الذهب، وجعل حرفة الكتابة وجهًا من أوجه حرفة الصياغة. في حديث شائق مبلل بدفء الذكريات المدرسية، مكتنز بثراء اللغة الأدبية، مفعم بعشق الأدب، وتذوق الأدب والاندكاك بالأدب في مقهى هوادة الشريك الأدبي بالهفوف يوم أمس الأول، وبضيافة في فعالية من فعاليات صالون بوح الأدبي، تحلق مجموعة من المعلمين والمبدعين والمهتمين حول الضيف المعلم القدير علي الباذر منصتين لجميل خطابه، ومحاورين يغوصون أعماق حديثه ويعلقون لاستخراج لآلئ الكلم وخلاصة تجربة امتدت لاثنين وثلاثين عامًا قضاها الباذر معلمًا، عامان منها في مدرسة الجفر الابتدائية، وثلاثة أعوام في مدرسة القدس الابتدائية، ثم أربعة أعوام منها في مركز العلوم والرياضيات بالدمام، وسبع وعشرون عامًا منها بالمرحلة المتوسطة ما بين متوسطتي عمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص في الهفوف. وبدأ مدير الأمسية القاص هاني الحجي بتقديم الضيف للحضور، ومنح فضاء زمني لكلمة الضيف الباذر التي شكر فيها مضيفه القاص هاني الحجي، ومقهى هوادة، وصالون بوح الثقافي بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ومساء ملؤه الـبوح السعيد والراحة والهَـوادة.
شكري وامتناني الكبيرين لمقهى (هوادة) وَصالون (بَوح) الثقافي على هذه الدعوة الفخمة الكريمة.
وأخص بالذكر صديقي وعزيزي، عراب هذه الأمسية القاص هاني الحجي. والشكر موصولًا لكل من أتحفنـا بحضوره وأسعدنـا بوجوده) ثم أشار الباذر في كلمته إلى يوم المعلم العالمي، ولخص الدور الكبير المنوط بالمعلم في أسطر وجيزة، يقول: (في الخامس من أكتوبر في كل عام تحتفل أكثر من مائة دولة في أنحـاء العالم بيوم المعلم.
كـل عام وكـل المعلمين على هذا الكوكب بخـير.
لم تكن مهنة التعليم هـاجسي، ولكن ظروف أحاطت بي غيرت اتجاه البوصلة لأجدني منغمسًا في لجـته الرسـالية الشـريفه.
لم يبالـغ أمير الشعراء أحمد شوقي في مقاربته الشهيره بين المعلم والرسول حين قال:
(قم للمعلم وفـه التبجيلا.. كـاد المعلم أن يكون رسـولا).
الصعوبة في هذه الوظيفة، إذا ما قـورنت بالوظائف الأخرى، ربمـا لكونهـا الوظيفة المركـبة.
المعلم /يمارس وظيفة الخطيب عند شرحه وعرضه لمادة الدرس.
المعلم / يمارس وظيفة المربي في توجيهه وتقويمه لتلاميذه.
المعلم/ يمارس وظيفة المحقق والقاضي في تصديه للمشاكل داخل الفصل.
المعلم / يمارس وظيفة الكاتب في التحظير للدروس والتصحيح للكراسات.
المعلم/ يمارس وظيفة المراقب، أو (الشرطي) في ضبطه للفصل والطابور).ثم تحدث الباذر بشكل خاص عن أحد تلامذته الذي اكتشف موهبته مبكرًا، حتى أصبح فيما بعد شاعرًا يُشار إليه بالبنان، يقول:
(أما في معرض الكلام عن دور المعلم في الكشف عن المواهب وتنميتها سأكتفي بذكر ما كنت كتبته في شاعرنا الكبير/ السيد علي النحوي:
(حين أستعيد الماضي، ألمح في بياض غيومه أطفالًا، أشَّـرت لـَهم، لقنتهم أصوات الحروف ورسمهـا.
من غيمة شعرية رفيعة هاطلة، ترجل أحدهم، يخترع من تلك الحروف أجمل الكلام وأكثره سحرًا وحكمة.
يخطهـا نجائب شـعر، ينسجها ملونة خافقة كأجنحة الفراش.
علي النحوي، لم تعد في ذاكرتي طفلًا لامع النظرات، صبوح الوجه، سيد النسب فحسب.
بل.. وسيدًا للشعر، صاعقًا بعصـٰاه، ممتطيًا متون غيومه).
أنقضت اثنان وثلاثون سنة في خضم هذا التركيب الوظيفي الفريد الذي لا يعرفه إلا من مارس هذه الوظيفة ونـاله شرفهـا.
رغم هذا التركيب المظني، تبقى روح الألفة والصداقة بين المعلم وتلاميذه باعثًـا للثقة، ودافعًا لـه على البذل والعطـاء، ومعـزيًـا لَـه على تَعـبه أجمل العـزاء.
أتمنىٰ لكم حـيـاة ملؤهـا التفـاؤل، يحدوهـا الأمـل وصالح الأداء والعمـل).
وفي فقرة الحوارات والمداخلات حول قضايا التعليم، والأدب داخل عدد من الحضور.
ومنهم مداخلة الناقد كاظم الخليفة التي جاءت محتفية بجانب “الخير” والعطاء في شخصية المعلم القدير علي الباذر؛ كون وظيفة التعليم منسجمة مع نوازع الخير المتأصلة في شخصيته للمنح والعطاء.
والقسم الآخر من المداخلة، كان عن طبيعة مزاولة الباذر للمهنة التي توارثها من الآباء والأجداد في صياغة الذهب، واقتراح المداخل عليه بالكتابة التوثيقية عن جماليات تلك المهنة باعتبارها فنًّا؛ حيث تبرز صياغة الذهب مفاهيم ثقافية محلية من خلال الزخارف والأشكال. فبعض تلك الزخارف تحمل قيمًا “ميثولوجية” قديمة، مثل الخاتم الذي يتم صبه بزخرفة خاصة، وبتوقيت “نهاية شهر صفر” من كل عام. وأشار كاظم إلى أن تلك الممارسة كانت في العهود القديمة والتي تم التخلي عنها حاليًّا، ولكن يمكن توثيقها كممارسة “تراثية” من أجل اطلاع الجيل الحالي، والأجيال المستقبلية عليها.
ومن المداخلات اللافتة مداخلة الكاتب عصام البقشي التي وسمها بعنوان (صياغة النص وصياغة الحلي) حيث قارن فيها بين الصياغتين بقوله:
(ما بين أنامل الكاتب وأنامل الصائغ،
تتشابه الحرفة، ويتعانق الإبداع.
ذاك يُنقّب في أعماق اللغة ليصوغ معنى، والآخر يُنقّب في أعماق المعدن ليصوغ جوهرة.
الكاتب يطرق الفكرة كما يطرق الصائغ الذهب، يشذّبها، يصقلها،
حتى تلمع في عين القارئ كما تلمع القلادة في جيد حسناء.
كلاهما يعرف أن القيمة في التفاصيل، وأن الزيف لا يمكن أن يختبئ طويلًا.
النص الرديء كذهب مغشوش،
والمصغرات الصادقة ككلمة صادقة…
تسكن في القلب.
فصائغ الذهب يُهدي لمعانًا للأجساد،
وصائغ الكلمات يُهدي لمعانًا للعقول).
وطعّم الباذر فقرات المداخلات ببعض نصوصه السردية الأدبية، منها نص بعنوان الإبداع:
“هَــل الإبدَاع/
إلاَّ مــٰاكـانَ مَولودًا، مِن حــالةِ حَبـلٍ فِكريَّة عَميقَـة، وَنَفسـيَّةٍ صَعـبةٍ. صَعـبةٍ. صَعــبة.؟
حَــٰالَـة تَـبدَأ ألَمًـــا لـــتَنتَهي بِراحَـة الصَّـرخَـة الكُــبرىٰ .!
هَــل الإبـدَاع
إلا إقتحـٰامًا للحصـون، وَإرهـاقًــا لِكـل مَعـاني الإسـتحَالَة وَالضـآلـة وَالضَعـف.؟
هَــل الإبـدَاع/
إلا أحَــد صِـيَغ الـنَّقد وَالخُـروج عَلى الـرَّتــابَة وَالتِّكــرار.؟
هَــل الإبـدَاع/
إلا تَـوديعًــا مؤرقًــا، لتلك الوِسَــادَةِ النــٰاعِمَة الــوَثيرة، التي طَــٰالَمـا غَــفَت واستأنست فَـوقَهــا أذكــى الــعقول، وأرجَحهــا؟ ونص آخر وسمه بعنوان: أفَـلا يَكـــون
” أَفَـــلآ يَـكــون التَّدين في ضمائرنـا
نَشــيدًا وَرغبـة، لاخَـوفًا وَرَهبــة.؟
ألا يَكــون التدين، تَدفـق وجَرَيان لا مَوانِـع وَســدود.؟
مــٰا أجمـلَه فينــٰا عِشـقًا وَشِــعرًا لاغٌضبًـا وإنتقــٰامًا..
وَمــا أحــلآه في أفــواهنـا، حروفًــا ســٰاكِنَة، وَصـلاةً بِلا جنَّـةً أو عَـذاب..
متٰى نَجِـد في تَديننــٰا، مـا يجـده الشــعراء وَالفنــانين في أشـعـارهم وَرسـومهم وَرَقصاتهم الأنيقَـة الوقــورة.؟
متٰى نَصغي لِلَّحن والعَـزف الحَـزين.كما نصغي للتِّلاوات والابتهـٰالات.؟
مَن (أقنعنــٰا) بِـأن لآ نَكـون متَدينين..
إلا عندمـــا نَكــون مــانعين لِخَفَقــات القلــوب المَخلـــوقةِ للخَفَقـــــٰان… مَـن؟ .
وتحدث تلميذه الشاعر علي النحوي عن حبه للأدب، وعن شخصيته الفنية وعن ذاكرته التراثية الأصيلة فقال: ” عرفته محبًّا للأدب، ووجدت فيه الرجل المحب للتراث والقراءة، وهو الرجل المبدع في الصياغة، ويتميز بأنه يحتفي بالحياة ويتميز بذاكرة تراثية خطيرة، ومن ذلك أننا في إحدى الليالي كنا معًا في إحدى المزارع، وكان يتحدث فأدهشنا بما لديه من سردية إعادة التراث لآبائه وأجداده، إن الباذر معلمي وصديقي، وهو فنان يصوغ الأدب بأنامله” وأضاف معقبًا برأيه عن هذه الأمسية (كان مساءً مختلفًا كان الأستاذ علي الباذر بنكهة الأحساء ونخيل الأحساء وأشجار الأحساء، وناس الأحساء الطيبين. أعادنا الباذر لأكثر من أربعين عامًا مع تجربته التعليمية وكيف كان التعليم في ذلك الزمن، وسرد كثير من الأحداث التي كانت تحدث في مدارسنا تلك الأيام، مثل ازدياد أعداد الطلاب في بعض المخيمات، وتحدث عن بعض الإستراتيجيات التعليمية التي لم نعرفها إلا هذه الأيام، وكيف كان المعلمون يستخدمونها في تلك الفترة. وتحدث عن مكانة المعلم في ذلك الزمن، وكيف كانت له هيبة وكان له حضور، وكيف كان له تأثير على طلابه. والمهم في المحاضرة هو كيف كان المعلم حريص على أن يبقى طلابه في ذاكرته، وكيف كان هذا المعلم يتردد على تلك القرية التي كان يُدرس فيها ويسأل عن طلابه القدامى الذين كان يدرسهم بعد مرور أربعين عامًا، ليلة جميلة التقينا فيها بالأستاذ علي وكانت سرديتها من أجمل الذكريات التي يتحدث بها رجل مبدع وأديب وفنان وصائغ ذهب).
وفي ختام الأمسية تقدم صالون بوح بالشكر للمعلم القدير علي الباذر على استجابته للدعوة، والإثراء بحضوره وحديثه العذب، ثم قدم له ممثل الصالون القاص هاني الحجي شهادة تقدير، ثم التقطت الصور التذكارية الجماعية.