
دلال الطريفي : الأحساء
في زمن تتسارع فيه المسؤوليات وتتشابك الأدوار، تبرز شخصيات استطاعت صياغة حضورها بوعيٍ ورسالة، تجمع بين الفكر والإنسان، وبين الريادة والعمل الإبداعي.
حوارنا اليوم مع باحثة الدكتوراة في أصول التربية، وكاتبة أدبية صدرت لها أعمال «بكل الحب أكرهك عام 2017»، «الطبينة عام 2019»، و«هتاف أخرس عام 2021».
الباحثة التربوية والأديبة أمل مطلق الحربي أنموذج لامرأة سعودية آمنت بأن الكلمة امتداد للفعل التربوي، وأن الأدب ليس خروجًا من المدرسة، بل عودة إليها من بابٍ أعمق وأكثر تأثيرًا.
في هذا الحوار، تفتح لنا الحربي صفحات تجربتها بين القيادة والكتابة، بين الرسالة التربوية وصوت الأدب، مُستكشفة كيف يتحول القلم إلى جسرٍ يصل الإنسان بذاته وبالعالم من حوله.
– بعد مسيرة ثرية في المجال التربوي، كيف استطعتِ التوفيق بين العمل القيادي والأنشطة الأدبية خارج المدرسة؟
الحقيقة أن التوفيق لم يكن سهلًا، ولكنه كان ممكنًا بالإيمان بالرسالة.
العمل التربوي يمنحك عُمقًا إنسانيًا، والكتابة تمنحك صوتًا.
كنت أتعامل مع كلا المجالين كجناحين متكاملين، فالإدارة علمتني الانضباط والتخطيط، بينما الأدب منحني الحرية والخيال، وبين الاثنين وجدت اتزاني.
– ما الذي دفعكِ إلى خوض تجربة الكتابة والنشر إلى جانب عملكِ في التعليم؟
الكتابة لم تكن قرارًا بقدر ما كانت حاجة روحية.
في الميدان التربوي نلتقي يوميًا بالقصص الإنسانية، بالألم والأمل، بالخذلان والطموح، وكل ذلك كان يختزن داخلي حتى وجد طريقه إلى الورق.
الكتابة بالنسبة لي ليست ترفًا، بل امتداد طبيعي لصوتي الإنساني الذي لا يجد مكانه أحيانًا في صخب العمل اليومي.
– هل كانت خبرتكِ في الإدارة والتعليم بشكل عام عاملًا مؤثرًا في أسلوبكِ الأدبي أو في موضوعاتكِ؟
بالتأكيد، التجربة الإدارية منحتني القدرة على قراءة التفاصيل الصغيرة في الإنسان، وجعلتني أكتب بوعي اجتماعي ونفسي أعمق، خلف كل نص أكتبه يوجد إنسان مرّ من بوابة التعليم أو الإدارة أو الحياة نفسها، وهذا الوعي يظهر حتى في السرد الأدبي دون قصد.
– ما الدور الذي تلعبه الكتابة في حياتكِ اليومية؟ هل هي وسيلة للتعبير أم امتداد لرسالتكِ التربوية؟
هي الاثنين معًا.. أكتب لأعبّر، ولأُربي أيضًا، أُؤمن أن الكلمة يمكن أن تهذب وتوجّه وتُلهم تمامًا كما يفعل الموقف التربوي داخل الصف أو المدرسة، الكتابة امتداد لرسالتي، ولكنها أكثر هدوءًا وصدقًا لأنها تنبع من الداخل.
– كيف تتعاملين مع النقد الأدبي، خصوصًا عندما يصدر من قُراء أو نُقاد لا يعرفون خلفيتكِ التربوية؟
أتقبله ما دام صادقًا، لا أرى النقد خصومة، بل مرآة، لا يهم إن كان الناقد يعرف خلفيتي أم لا، المهم أن يرى النص كما هو.
ما يزعجني فقط هو النقد السطحي أو الشخصي الذي يتجاهل الجهد والنية، أما النقد الموضوعي فهو نعمة للكاتب الحقيقي.
– هل تجدين أن العمل في الميدان التربوي ساهم في إثراء رؤيتكِ الإنسانية والاجتماعية التي تظهر في كتاباتكِ؟
دون شك، الميدان التربوي مدرسة للحياة، التعامل اليومي مع المعلمين والطلاب والأسر كوّن في داخلي حسًّا إنسانيًا عاليًا، جعلني أرى ما وراء السلوك والكلمة، ولهذا تجدين أن شخصياتي الأدبية غالبًا تحمل مزيجًا من القوة والهشاشة، مثلما هم البشر الذين نصادفهم في مدارسنا.
– كتابكِ الأول «بكل الحب أكرهك» حمل عنوانًا مثيرًا ومتوازنًا بين التناقض والمشاعر، ما الرسالة التي كنتِ تودين إيصالها من خلاله؟
العنوان بحد ذاته يعكس تناقض الإنسان حين يحب بصدق فيتأذى من ذات الحب.
أردت أن أقول إن المشاعر لا تُقاس بالمنطق، وأن أقسى أنواع الكراهية هي التي تولد من رحم الحب، الكتاب كان تجربة وجدانية عميقة في فهم العلاقات الإنسانية المُلتبسة.
– ماذا بشأن روايتكِ «الطبينة» التي صدرت عام 2019؟ ما القصة وراء هذا العمل؟ وكيف كانت ردود الأفعال حولها؟
«الطبينة» عمل يلامس قاع الألم الإنساني بصمت، كتبتها عن مجتمعٍ يبدو ساكنًا من الخارج ولكنه يختزن انفجارات داخلية من الخذلان والبحث عن الذات.
البطلة حياة تُمثل شريحة من النساء اللاتي يعشن بين الواجب والعاطفة، بين القبول والرفض، ردود الأفعال كانت مُدهشة، البعض قرأها كقصة حب، وآخرون كصرخة اجتماعية، وهذا ما أسعدني: أن يرى كل قارئ فيها شيئًا من نفسه.
– أين تجدين نفسكِ أكثر.. في كتابة الخواطر القصيرة أم في العمل الروائي الطويل؟
في الحقيقة كلاهما جزء مني، الخاطرة هي نبضة القلب، والرواية هي سيرة الروح.
الخواطر تمنحني لحظة صدقٍ سريع، أما الرواية فهي مساحة تأمل طويلة أعيشها وأتنفسها حتى تنضج.
– ما أبرز القضايا أو الرسائل التي تحرصين على إيصالها عبر كتاباتكِ؟
أكتب عن الإنسان بكل تناقضاته، عن المرأة التي لا تجد صوتها، وعن الطفل الذي يُهمَل، وعن المعلمة التي تُحاكم بصمتها، أكتب لأكشف ما يُخفيه الصمت، لأنني أؤمن أن الأدب مسؤولية قبل أن يكون متعة.
– هل هناك مشروع أدبي جديد تعملين عليه حاليًا يُمكن أن نكشف عنه للقراء؟
نعم، أعمل على عمل روائي جديد يحمل طابعًا اجتماعيًا وإنسانيًا، يُسلّط الضوء على التحولات الداخلية للمرأة الخليجية بين الواقع والذاكرة، ما أزال في طور البحث والكتابة، ولكنه مشروع قريب إلى قلبي جدًا.
– من أين تستمدين إلهامكِ في الكتابة؟ وهل للتجارب الحياتية أو المواقف الإنسانية تأثير واضح في نصوصكِ؟
الإلهام يولد من التفاصيل الصغيرة: من نظرة، من موقف بسيط، من وجعٍ مرّ بي أو سمعته من غيري.
أحيانًا فكرة الرواية تبدأ من جملة عابرة سمعتها في ممر مدرسة، الحياة هي المصدر الأكبر، وأنا فقط أترجمها بلغة أدبية.
– من هُم الكتّاب أو المُفكرون الذين شكلوا أثرًا في رحلتكِ الأدبية؟
تأثرت بعمالقة الأدب العربي الذين أسسوا للفكر والجمال معًا، مثل: طه حسين، والعقاد، والمنفلوطي، والرافعي.
أولئك الكبار زرعوا فينا احترام الكلمة، والإيمان بأن الأدب ليس ترفًا لغويًا بل مسؤولية فكرية وإنسانية.
– هل تعتبرين الكتابة بالنسبة لكِ متنفسًا شخصيًا أم رسالة مجتمعية؟
هي الاثنين، ولكنها تميل إلى أن تكون رسالة؛ لأن الكتابة الصادقة لا تكتفي بأن تداوي الكاتب، بل تمتد لتلامس القارئ وتغيّر وعيه، أكتب لأصالح نفسي، ثم لأصالح الآخرين مع الحياة.
– كيف ترين العلاقة بين الأدب والتربية؟ وهل يُمكن للأديب أن يكون قائدًا تربويًا ناجحًا والعكس؟
العلاقة بين الأدب والتربية هي علاقة روح وفكر، كلاهما يسعى لبناء الإنسان، ولكن أحدهما بالكلمة والآخر بالموقف. نعم، يمكن للأديب أن يكون قائدًا تربويًا مُبدعًا، لأن الأدب يُغذّي الخيال، والخيال أساس كل تجديد تربوي حقيقي.
– بكلمة أخيرة، كيف تُلخصين مسيرتكِ خارج أسوار المدرسة، وما الحلم الذي ما تزالين تسعين لتحقيقه؟
أراها رحلة بحث عن الإنسان في داخلي وفي الآخرين، لم أكتب لأُعرف، بل لأُحدث أثرًا.
حلمي القادم أن أرى الأدب جزءًا من التربية، وأن تُدرّس القيم من خلال القصص والنصوص التي تشبهنا.
ما أزال أؤمن أن الكلمة هي أعظم وسيلة للتغيير.
بكل التقدير والامتنان، تختتم صحيفة بشائر هذا اللقاء الذي أبحرنا فيه مع ضيفتنا في عوالم الفكر والتربية والأدب، واستكشفنا من خلاله تجربة ملهمة تؤكد أن الكلمة حين تُصان وتُعاش تتحول إلى أثر.
نتوجه بخالص الشكر للأستاذة أمل مطلق الحربي على ما منحته لنا من وقتها، وعلى هذا الحضور الثرّي الذي جمع بين العمق الإنساني والوعي التربوي.
متمنين لها دوام التوفيق ومزيدًا من التألق والإبداع، وأن تستمر رسالتها في الإضاءة لكل قارئٍ وباحثٍ عن معنى الكلمة وصداها.
دمتم ودام العطاء.