أقلام

من الذرة إلى المجتمع: كيف يحكمنا قانون الطاقة الأدنى؟

غسان بو خمسين

من وحي قوانين الفيزياء التي تحكم الكون، يبرز مبدأ “أقل مستوى للطاقة” (Principle of Least Energy) كقاعدة رئيسة مستمدة من القانون الثاني للديناميكا الحرارية. ينص هذا المبدأ على أن أي نظام فيزيائي، من الإلكترون الدقيق الذي يدور حول نواة الذرة إلى المجرات الهائلة التي تسبح في الفضاء، يميل بطبيعته إلى الاستقرار في حالته الطاقية الدنيا، أو ما يُعرف بـ “الحالة القاعية” (Ground State). فالإلكترون لا يقفز إلى مدار طاقة أعلى إلا إذا اكتسب طاقة خارجية تُعرف بـ “الإثارة”، وسرعان ما يتخلى عن هذه الطاقة الزائدة ليعود إلى سكينته واستقراره الأصلي. هذه النزعة الكونية نحو الاستقرار هي التي تضمن، بحكمة إلهية بالغة، ديمومة الوجود وتوازن الكون، فلولاها لتحول كل شيء إلى حالة من الإثارة غير النهائية، والفوضى العارمة التي تفضي إلى التلاشي والانهيار. ولكن، هل يمكن لهذا القانون الفيزيائي الصارم أن يغادر عالمه المادي ليجد له صدى في عالم النفس الإنسانية المعقد والمركب؟ هل يمكننا أن نرى في سلوكياتنا ونزعاتنا انعكاسًا لهذه الرغبة الكونية في الوصول إلى “أقل مستوى للطاقة”؟ إن التأمل في الطبيعة البشرية يقودنا إلى استنتاج مثير، وهو أن النفس البشرية، في جوهرها، تخضع لنسخة مجازية من هذا القانون. تميل النفس بطبيعتها إلى ما يمكن تسميته بـ “التسافل” أو “التثاقل” نحو الحالة القاعية، وهي حالة السكون، والدعة، والانغماس في الملذات المادية والمعنوية، والاستجابة للغرائز والشهوات. إنها تجد في هذه الحالة راحتها واستقرارها المؤقت، تمامًا كما يجد الإلكترون استقراره في مداره الأدنى. في المقابل، فإن الارتقاء بالنفس نحو الكمال الأخلاقي والروحي يمثل “حالة الإثارة”، وهي حالة تتطلب جهدًا ومجاهدة وصراعًا داخليًا ضد قوى الجذب التي تشد الإنسان إلى الأسفل. هذا الصراع هو ما يجعل حالة التكامل حالة غير مستقرة بطبيعتها، تحتاج إلى طاقة مستمرة للحفاظ عليها. وقد لخص القرآن الكريم هذا التثاقل نحو الأرض أبلغ تلخيص في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (التوبة: 38). فالآية تصور ببراعة كيف أن النفس تتثاقل وتميل إلى راحة الدنيا وملذاتها، وتجد صعوبة في الانطلاق نحو المعالي التي تتطلب بذلًا وتضحية. ولكن رحمة الخالق وعدله اقتضت ألا يترك النفس في هذه الحالة الدنيا، فكان إرسال الأنبياء والرسل بمثابة تلك الطاقة الخارجية التي تأخذ بيد الإنسان لترفعه من حالة التسافل إلى حالة التكامل العلوية. ولا يقتصر تطبيق هذا المبدأ على الجانب الروحي والأخلاقي فحسب، بل يمتد ليشمل عقل الإنسان وتفكيره. فكل منا، بوعي أو بغير وعي، يبحث عن أسهل الطرق وأقلها استهلاكًا للطاقة العقلية عند التعامل مع الأفكار والمعتقدات. فعندما يتبنى الإنسان فكرة ما، فإنه يميل إلى الدفاع عنها وتبريرها بأبسط الوسائل الممكنة، حتى لو اضطر إلى إقناع نفسه بالقوة بصحتها، متفاديًا بذلك حالة “الإثارة” العقلية التي تنشأ عن الشك والنقد والتنافر المعرفي. إنها رغبة دفينة في تحقيق السكون العقلي والراحة النفسية، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة. وعلى المستوى الاجتماعي، يتجلى هذا المبدأ بوضوح أكبر. فالمجتمعات، كالأفراد، تميل إلى إلقاء تبعات فشلها وإخفاقاتها على عوامل خارجية، لتريح نفسها من عبء المسؤولية ولوم الذات. ففي مجتمعاتنا العربية، أصبحت “نظرية المؤامرة” هي الجواب الجاهز والحاضر لتفسير كل أزماتنا، وكأن قوى العالم لا هم لها إلا التآمر علينا. إنها “الحالة القاعية” التي يعفي فيها المجتمع نفسه من مسؤولية النهوض والتغيير، ويستكين في دور الضحية، وهو الدور الأقل تكلفة من الناحية النفسية. إن الاعتراف بالتقصير وتحمل المسؤولية يمثل “حالة إثارة” مجتمعية تتطلب جهدًا جماعيًا هائلًا لمواجهة الذات وتصحيح المسار. في نهاية المطاف، يبدو أن قانون “أقل مستوى للطاقة” ليس مجرد قانون فيزيائي، بل هو مرآة تعكس ميلًا أصيلًا في الطبيعة البشرية نحو الراحة والسكون وتجنب المقاومة. وسواء كان هذا الميل في النفس أو العقل أو المجتمع، فإن الوعي به هو الخطوة الأولى نحو تجاوزه. فالإنسان لم يُخلق ليستكين في حالته القاعية، بل ليستخدم طاقته الروحية والعقلية للارتقاء بنفسه نحو “حالات الإثارة” التي تكمن فيها معاني الإنسانية السامية والوجود الحق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى