أقلام

بين حيّ الأمس وحيّ اليوم.. كيف فقدنا بساطة الخطبة؟

سامي ال مرزوق

دفء الحي القديم وبساطة البدايات:

لم يكن البيت في الماضي جدراناً تُغلق، بل قلباً نابضاً بالناس، كان صوت الأمهات يتقاطع عند أبواب الطين، وضحكات البنات تمتزج بأصوات الصغار في “الفريج”، ذلك الحي الذي كان عالماً من دفءٍ لا يتكلف، وعلاقاتٍ لا تُصنع، وقلوبٍ تعرف بعضها كما تعرف ملامح الصباح طريق النور. هناك كانت الخطبة تتم في بساطتها الفطرية، حين ترى الجارة بنت جارتها فتعرف من خَلقها ما يغني عن السؤال، وحين يمر الفتى فيعرف الفتاة من عائلتها وسيرتها، قبل أن يعرف ملامحها. لم يكن هناك غموض في الوجوه، ولا مسافة بين القلوب، كانت الأمهات يزرن البيوت بلا موعد، والنية أسبق من الكلمة، والعين لا تخشى أن ترى لأنها لا تحمل سوء ظن، والقلوب مفتوحة كما كانت الأبواب مفتوحة، كانت الخطبة جلسة عائلية تُدار بخفة ظل ورضا نفوس، والقبول أو الرفض أمراً طبيعياً لا يُجرح به أحد، فالقيمة كانت في الأصل لا في الشكل، وفي المضمون لا في المظاهر.

حين غابت الألفة وحلت المسافات:

ثم تغير كل شيء، وكأن المسافة بين بيت الأمس وبيت اليوم ليست أمتاراً من العمران بل أميالاً من الغربة الاجتماعية. تمددت المدن واتسعت الأحياء وتحولت العلاقات من دفء بشري إلى معرفة إلكترونية باردة، صار اللقاء بين الناس يحتاج إذناً وموعداً وربما اعتذراً مسبقاً. لم تعد الفتاة تعرف من خُلقها وصورتها بل من صورة عابرة على الشاشة، ولم يعد الخاطب يعرف عن بيتها إلا ما تقوله الوجاهة أو الطبقة أو شهادات التعليم. تغير كل شيء حتى في مفهوم الخطبة، التي كانت يوماً بداية حياة، فأصبحت مشهداً مرتبكاً بين “حساسية” و ” خوف” و ” حسابات”. بات بعض الأهل يرفضون أن يرى أهل الخاطب الفتاة، بحجة أنها ” حساسة” وقد لا تعجبهم، وكأن الرفض صار عيباً، وكأن الرؤية الشرعية امتحان قبول لا لقاء نية طيبة. الأغرب أن هذا الموقف يجد دعماً من الأم أو الأخوات، يظنون أنهم يحمونها من الإحراج بينما هم في الحقيقة يُطوقونها بجدار من الوهم، يحرمها من أن تُرى كما هي، ويحرم الخاطب من أن يتعرف على شريكة حياته في أجواء طبيعية وإنسانية.

ازدواج بين الحياء والخوف:

تحولت الخطبة في عصرنا إلى مشهدٍ من التوجس، وكأن الفتاة تُخشى عليها من عيون الناس، في الوقت الذي تُرى فيه يوماً في المقاهي والأسواق والمناسبات العامة، بل أحياناً في فضاءات الإنترنت المفتوحة، بلا التحفظ ذاته الذي يُبذل في مسألة مصيرية كهذه، المفارقة مؤلمة. نغلق باب اللقاء الذي شرعه الدين لحماية القلوب من الغرور، ونفتح نوافذ أخرى أكثر جرأة في مساحات لا ضابط لها. ما الذي جرى؟ ولماذا صار الناس يتحسسون من أبسط ما كان طبيعياً قبل عقود قليلة؟.

الأسباب كثيرة، تتشابك فيها التحولات الاجتماعية مع الخوف من المظاهر. لقد انكسرت البنية التقليدية للأسرة الممتدة التي كانت تعرف أخبار بعضها من الزيارات اليومية، واستبدلت بعائلات صغيرة منعزلة تخاف من ” القول” أكثر مما تخاف من الخطأ. تراجع التواصل الإنساني أمام زحف الخصوصية المصطنعة، وبدأت حساسية الرفض في الاختيار. كما ساهمت ثقافة المقارنة التي غذتها وسائل التواصل في خلق فكرة” الكمال الجمالي” الذي يصعب تحقيقه، فصار الخوف من أن” لا تعجب” الفتاة أحدهم هاجساً يسير قرارات الأسرة، وكأن الزواج صفقة تجميلية لا مشروع إنساني يقوم على التفاهم والمودة.

من الرؤية إلى الامتحان:

والنتيجة أن الرؤية الشرعية، التي كانت منطقية وعفوية، تحولت إلى استثناء يحتاج شجاعة. والرفض الذي كان رأياً شخصياً، صار يُقرأ كإهانة. واللقاء الذي كان خطوة للتعارف، صار يُنظر إليه كاختبار حرج. وحين تختفي الألفة، يغيب الصدق ايضاً، فيبدأ الزواج من مساحة خجل لا من أرض وضوح. كثير من الفتيات اللواتي حُرمن من أن يُرين بطريقة طبيعية قبل الخطوبة، يجدن أنفسهن بعد العقد في موقف أصعب، حين تكون النظرة الأولى بعد الارتباط الرسمي، فلا إعجاب ولا قبول، فيبدأ النفور الصامت أو الانفصال المبكر. كل ذلك بسبب الخوف من” التحسس” الذي ظنوه أدباً، وهو في الحقيقة قيد جديد فُرض باسم الحياء.

الحاجة إلى العودة للفطرة:

ليست المشكلة في الحياء ولا في الستر، فالدين لم يمنع الرؤية، بل جعلها وسيلة لحُسن الاختيار. المشكلة في ازدواج نعيشه بين ما نفعله وما نظن صواباً. نخفي البنت عن بيت الخاطب ونكشفها للعالم الافتراضي، نرفض اللقاء بحجة الاحترام ونترك الغرابة تُحكم بين الأرواح. في مجتمع كان الناس يعرفون بعضهم من النظرة والسمعة، أصبحوا اليوم غرباء تحت سقف واحد، يطرق أحدهم الباب فيرتبك الجميع كأنهم امام غريب تائه، لا عريس قادم بخطوة نية طيبة.

الزمن تغير، نعم ولكن ليست التغيرات حجة لإلغاء البديهيات. فالبساطة التي كنا نعيشها لم تكن ضعفاً في الوعي، بل صفاءً في النية. والاحتكاك الاجتماعي لم يكن تعدياً على الخصوصية، بل تأكيداً على الأمان. حين كانت الأم ترى الفتاة المراد خطبتها، كانت تقرأ في عينها طيبة الخُلق، لا ملامح الوجه، وكانت الفتاة تقبل أن تُرى لأنها واثقة من نفسها لا لأنها ” معروضة”. اليوم نعيش حذراً مبالغاً فيه، وننسبه للحياء، بينما هو خوف من الحكم، من الرفض، من كلمة ” ما عجبتهم”. ننسى أن الزواج الذي يبدأ بخوف من الرؤية لن يصمد طويلاً أمام حقيقة العِشرة.

بين التحسس والطمأنينة:

ربما لم نفقد فقط بساطة الخطبة، بل فقدنا معها صدق اللقاء الإنساني. كأننا أصبحنا نعيش في مجتمع يراقب نفسه أكثر مما يثق بها، يقيم المشاعر بمعايير ” التحسس” و ” الذوق العام” لا بمعايير الفطرة والنية الطيبة. إن الخوف من أن ” تعجب” الفتاة أحدهم، جعلنا نغفل أن الإعجاب ليس هو القبول، وأن الرفض لا ينقص من قيمتها شيئاً. في الماضي، كان الرفض يقابل بابتسامة وعبارة ” نصيب” واليوم يُقابل بصمتٍ جريح، وكأن الكلمة خنجر. إن الرؤية الشرعية ليست اختبار جمال بل مساحة صدق بين شخصين يبحثان عن حياة مشتركة، ومتى ما فرغناها من معناها الإنساني، صارت عبئاً بدل أن تكون جسراً. لعلنا بحاجة أن نعيد للخطبة معناها الأول. لقاءً بسيطاً، واضحاً، بلا تصنع ولا خوف، لقاء يفتح باب القلب لا يختبره. فهل نملك الشجاعة لنعود إلى البساطة؟ وهل يجرؤ مجتمع اليوم أن يثق في فطرته كما كان أهل الأمس يثقون بها؟ ذلك هو السؤال الذي قد يُعيدنا من ” زمن التحسس” إلى زمن الطمأنينة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى