المَهر: متطلّباتٌ وأثر

عماد آل عبيدان
لم يكن المَهر في القطيف يومًا سباقَ أرقام تعلق على الجدران كما علقت المعلقات السبع على جدار الكعبة، ولا كانت حفلات الزواج حلبة تنافس في أطول «بوفيه» وأغلى «كوشة» وأفخرِ زينة وبهرجة وهل من مزيد، ولكن الموجة تغيرت كما تغير وجه واتجاه السوق فارتفع كل شيء حتى المَهر الذي كان في حدود العشرين ألفًا فإذا به يقفز ثلاثين ثم خمسًا وثلاثين كأنه سهم مضاربة في يوم لا يغلق فيه التداول وقابل للارتفاع.
في الأمس، كان عقد الزواج يتم في بيت متواضع ببسمات صادقة وفرح، وتمر وقهوة، وقلوب ترى الفرح في الرضا وليس في المظاهر. واليوم صار للعقد حفلتان؛ جهة رجالية، وأخرى نسائية، وبينهما «حفل الخطوبة» الذي يستهلك نصف المدخرات في التحضيرات والتعاقد مع فرقة الأناشيد أو الطرب أو القارئ، والديكور، والبوفيه وغيرها. وكأن كل طرف يريد أن يثبت أنّ فرحه أكثر «رفاهية وبهجة» من الآخر.
الغريب أنّ الجميع يعلم أنّ هذه المظاهر لا تغني عن المحبة، ولا تشتري التفاهم، ومع ذلك يستمر الركض في هذا الماراثون وكأن من يتوقف يقصى من المجتمع. الشباب يضحكون ساخرين: «الزواج صار مشروعًا تمويليًا لا علاقة له بالعاطفة»، ويضيف أحدهم: «لو أن الحب يباع بالغرامات، لارتفع سعره مع الذهب». ضحكة تخفي وجعًا يعرفه كل من حاول الاقتراب من فكرة الزواج في هذه الأيام ويعانيه دون حول منه ولا قوة.
ارتفع الذهب فارتفع المهر. ارتفع الإيجار فارتفعت المطالب. ارتفعت أسعار الأشياء الفلانية، فارتفعت فواتيرها، وارتفع سقف الرغبات معها. وحدها النية الطيبة بقيت في مكانها تحاول أن تتنفس بين الأوراق النقدية وتلك الصعوبات. وما إن يجرؤ أحد على اقتراح التيسير حتى يهاجم بالسؤال الساخر:
«زوّج بناتك أنت بهذا الكلام اللي تقوله!»
وأقول: المشكلة ليست في المهر ولا في مقداره الحالي لو كان يُستخدم كمهر بالفعل الواقعي والحقيقي، ولكنه لا يكفي نعم لا يكفي لا لأن العريس بخيل، ولكن لأننا جعلناه بداية لقائمة لا تنتهي من المصروفات. الأب الذي يستلم المهر — كما الطرف الآخر— يضع على نفسه ضعفه أو أضعافه من أجل «الترتيبات» التي صارت عرفًا لا يُكسر: فستان العروس، كوشة، تصوير، ضيافة، ديكور، وإعادة ترتيب المنزل وكأنه قصر في طريقه لاستقبال ملك لا ضيف.
هكذا تبدأ الحكاية برغبة صافية لإكمال نصف الدِين، وتنتهي بقرض طويل الأجل بهمّ الدَين. ما كان رمزيًا صار اليوم عبئًا، وما كان مودة صار استعراضًا وكُلفة، وربما — كما أقول معتادًا في مثل هكذا أمور — أوّله ولع وآخره وجع. بلشنا أنفسنا باسم الفرح، وليسمح لي بهذا التعبير؛ فالزواج ليس بلشة، وإنما سنة الله في الخلق وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولكننا بلشنا أنفسنا وقمنا نعيش في دوامة من «الكماليات» التي تقدم باسم الضرورة. وكل عقد جديد يتفنن في رفع السقف عن سابقه، فيتضاعف الإنفاق حتى يغدو الزواج مشروعًا اقتصاديًا — ذو كلفة مادية عالية — لا اجتماعية فيه.
أتساءل باستغراب ووجع: كيف يشكو الآباء الغلاء وهم أول من يبارك المبالغة فيه؟
وكيف تطلب بعض الأمهات لابنتهن ليلة لا تُنسى، ولو نسيت الاسرة بعدها ميزانها؟
وكيف يبدأ الشباب حياتهم بديون تثقل أعمارهم، ليثبتوا فقط أنهم «مستعدون للحياة»؟
المَهر في القطيف لم يعد مسألة نقد أو رقم على ورقة، فقد تحول إلى ثقافة تجري مجرى العادة. كل زواج جديد يضاف إلى سجل التضخم الاجتماعي، تسجل فيه الأرقام في خانة «المظاهر»، وتترك النوايا في الهامش. المشكلة ليست في الرقم، المشكلة في النظرة إليه؛ فالمهر الكافي ليس الذي يغطي النفقات، وإنما الذي يبدأ به البيت، ولا ينتهي عند قاعة الحفل.
يقول أحدهم مازحًا: «إن كنت تظن أن ثلاثين ألفًا تكفي، فراجع جدول الأسعار قبل أن تذهب للخطبة!»
وأردّ: المهر كافٍ لو لم نربطه بموجة البهرجة والبذخِ والإسراف. غير أن المعضلة بدأت حين صار المهر جزءًا من حملة الاستعراض الكبرى. لم يعد ما يُدفع للعروس مهرًا، فهو دفعةٌ أولى لمشروع «الإبهار» الجماعي الذي لا يقف عند حدود المنطق. وتؤخذ هذه المسألة اليوم كأنها قانون لا يناقش: المهر ارتفع سهمه، وما يرتفع لا ينزل، ليصبح عرفًا قابلًا للزيادة دون سابق إنذار.
ليس الهدف أن نعود إلى «العقد في السطح» و«العرس في الفناء»، وإنما لنعود إلى روح الزواج نفسه والبركة والسكن، ببناء يُقام على التفاهم، لا على استعراض التكاليف وكسر الظهور والعيش في ديمومة الديون — وهذا من أسباب العيشة الضنكى ومسببات الانفصال لا قدّر الله. فلنرى الفرح في البساطة والقناعة، لا في صدى مكبرات ومضخمات تُمرض حياتنا رغم بساطتها.
ولمن يقول ساخرًا: «زوّج بناتك بهذا الرأي الذي تكتبه!» أقول: لو أن المجتمع كله آمن بهذه الفكرة، لما احتجنا لتحديها وانتقادها. ولكن على من تقرأ زبورك كما يردّدها صاحبنا العمدة! المشكلة ليست في تقليل المهر يا إخوان ويا أخوات، إنما في تضخيم المظاهر التي جعلت من الزواج ساحة منافسة اجتماعية، لا سكنًا ومودة.
في القطيف — كما في كل مكان — القلوب ما تزال تحلم، والشباب يريدون أن يبدأوا، ولكن الطريق إلى «نعم» صار مليئًا بالحواجز المعرقلة والعثرات المالية والاقتصادية. كل أسرة تخشى كلام الناس أكثر من خوفها على راحة أبنائها، وكل عقد جديد يصعد سهمه في سوق لا يهدأ، ولا يُرى بعين الوعي، ولا لهذه الحروف أن تجد لها آذانًا واعية.
ويبقى السؤال معلقًا في ضمير كل أب وأم:
هل نريد فرحًا يُرى في الصور، أم سعادة نلقاها ونعيشها في العمر وسكن؟
وحين نجد الجواب سيعود المهر إلى معناه، ويعود الزواج مشروع حياة لا مشروع كسر ظهور وفخفخة وديكور.
حينها فقط، سيكفي المهر… ويفيض بالبركة، وتحيا سنة نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكل فاعلية وحب ورضى وسلام.




