فاطمة الزهراء عليها السلام… حكاية النور الذي لم ينطفئ

أحمد الطويل
مقدمة:
كلّ عامٍ تمرّ فيه ذكرى رحيل فاطمة الزهراء عليها السلام، تعود الأسئلة لتُقلق القلوب قبل العقول: كيف يمكن أن تُظلم ابنة النبيّ، وهي التي كانت نور عينه وثمرة فؤاده؟
كيف تُطوى صفحة الحياة عن امرأةٍ كانت امتداد الرسالة ومِحراب الطهر في بيت النبوّة؟
إنّها الحكاية التي لا تخبو، لأنّها ليست فصلًا من التاريخ، بل شعاعًا من النور الإلهي الذي ما يزال يضيء الضمائر كلّما خفت صوت العدالة.
الزهراء في ضوء النبوّة
يروي الشيخ الصدوق في الأمالي حديثًا يهزّ القلوب عن رسول الله ﷺ قال فيه: “وأما ابنتي فاطمة، فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي، وهي الحوراء الإنسية… فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم عليّ محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة…”.
بهذه الكلمات، رسم النبيّ ﷺ صورة ابنته لا كابنةٍ فحسب، بل كمرآةٍ لروحه.
فهي سيدة نساء العالمين، لا بميلادٍ شريف فقط، بل بكمالٍ روحيّ لا يُضاهى.
وهي بضعةٌ منه، أي جزءٌ من ذاته، امتداد نبوّته، وصدى نوره في عالمٍ غلب عليه الظلم.
وحين قال عنها: “نور عيني، ثمرة فؤادي، روحي التي بين جنبي”، لم يكن يصف حنان الأب، بل يبيّن وحدة الرسالة بينه وبينها.
ففاطمة لم تكن ابنة النبيّ، بل كانت قلب الرسالة حين غابت جسدًا، وبقيت روحًا حيّة في ضمير الأمة.
الحوراء الإنسية
إنّ وصف النبي لها بـ”الحوراء الإنسية” ليس مجازًا شعريًا، بل حقيقة وجودية.
فهي مخلوقة من نورٍ سماويّ، جمعت صفاء العالم العلويّ برقة العالم الإنسانيّ.
تجلّت فيها الطهارة كما لم تتجلّ في إنسيةٍ قبلها أو بعدها، فكانت همزة الوصل بين الأرض والسماء، بين بشريّة الإنسان ونورانية الروح.
إنّها المثل الأعلى للأنوثة المؤمنة، والعصمة الناطقة، والرحمة المتمثّلة في صورة امرأة.
الإخبار الغيبي بمظلوميتها
حين قال النبي ﷺ: “فتقدُم عليّ محزونة مكروبة مغصوبة مقتولة”، كان يُعلن بلسان الوحي أن الظلم سيطرق باب بيته.
هذا الإخبار لم يكن نبوءة فحسب، بل تحذيرًا للأمة أن تحذر الظلم بعده، وأن تعرف أنّ اختبارها الأكبر سيكون في موقفها من ابنته.
لقد جمع هذا الوصف بين ألوان الظلم كلّها: الحزن في الروح، والغصب في الحق، والقتل في الجسد.
وهكذا كانت مظلومية الزهراء عليه السلام شاملة: نفسيّةً، وحقوقيةً، وجسديّةً، فصارت مرآةً لمظلومية الحقّ في وجه الباطل.
موقف النبيّ ودعاؤه
قوله ﷺ: “اللهم العن من ظلمها، وعاقب من غصبها، وأذلّ من أذلّها، وخلّد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها”، ليس مجرد دعاء أبٍ لبنته، بل شهادة نبوية على عِظَم الجرم الذي ارتُكب بحقّها.
فهو يطلب اللعن والعقوبة والذلّ والخلود في النار، وهي مراتب لا تُقال إلا في حقّ من خالف أمر الله جهارًا.
ولذلك كانت هذه الكلمات ميزانًا للأمة، ليُعرف بها من والى الله ورسوله، ومن نكث بعد العهد.
ثم يقول النبيّ ﷺ: “فتقول الملائكة عند ذلك: آمين”.
كأنّ السماء كلها أطبقت على تأييد هذا الموقف.
لقد أصبحت مظلومية الزهراء قضية كونية، تجاوزت حدود الزمان والمكان، لأنّها تمسّ جوهر العدالة الإلهية.
فما جرى عليها لم يكن حادثة تاريخية، بل امتحانًا للإنسان في قدرته على الانتصار للحق حين يُحاصر بالصمت.
دروس خالدة من سيرتها واستشهادها
لم تكن فاطمة عليها السلام واعظةً بالكلام، بل كانت درسًا حيًّا يسير على الأرض.
علّمت الناس أن الإيمان لا يُقاس بالمكانة ولا بالحشود، بل بثبات القلب حين يتبدّل كل شيء.
وحين واجهت الظلم بصمتٍ يقطر وجعاً، أثبتت أن الصبر ليس ضعفًا، بل هو موقفٌ من أجل الله، وأن الصوت الهادئ قد يكون أبلغ من صخب السيوف.
علّمت المرأة أنّ كرامتها في علمها وعفّتها، لا في جاهٍ ولا في زينةٍ زائلة.
وذكّرت الأمة أن الدفاع عن الحق لا يحتاج إذنًا من أحد، لأن الله هو الحَكَم بين عباده، وأن من آذى الزهراء فقد آذى النبي، ومن آذى النبي فقد خاصم الله.
لقد جعلت من حياتها برهانًا على أنّ النور لا يُطفأ بالظلم، وأنّ الرسالة التي زرعها النبي ﷺ في قلبها، ستبقى تورق كلّما حاول الطغاة اقتلاعها.
ولهذا لم تمت الزهراء في وجدان المؤمنين، بل صارت رمزًا لكلّ من اختار الصبر طريقًا، والحقّ موقفًا، والوفاء للرسالة عهدًا لا يُنقض.
الخلاصة:
لم تكن فاطمة الزهراء عليها السلام حدثًا في الذاكرة، بل كانت وجدانًا يسري في ضمير كلّ مؤمنٍ يبحث عن النور في زمنٍ يغشاه الظلم.
رحلت وهي تحمل في قلبها جراح الأمة، لكنها تركت للأجيال ميراثًا لا يُقاس بالمقدار، بل بالموقف.
علّمت الإنسان أن الحقّ قد يُحاصر، لكنه لا يُهزم، وأن الصبر ليس انكسارًا، بل قمة القوة حين يكون لله.
وفي صمتها كانت ثورة، وفي حزنها كانت رسالة، وفي رحيلها كانت ولادة جديدة لقيمٍ خالدة لم تنطفئ.
إنّ سيرتها ليست ترفًا روحيًا، بل دعوةٌ دائمة لأن نقيس أنفسنا بمعيارها، هل ما زال فينا من يوجعه الظلم كما أوجعها؟
هل ما يزال فينا من ينهض للدفاع عن المظلوم كما نهضت؟
إنّ فاطمة عليها السلام هي المِرآة التي يرى فيها المؤمن صدقه، والميزان الذي يُوزن به إيمان الأمة.
ولهذا تبقى الزهراء حكاية النور الذي لم ينطفئ، نورًا يُضيء للمحبين دربهم في ظلمة الفتن، وصوتًا خافتًا لكنه لا يخبو، ينادي كل قلبٍ حيّ، أن اثبت على الحق، واصبر كما صبرت فاطمة، فإنّ الله لا يضيع أجر الصابرين.
اللهم اجعلنا من المتمسكين بنهجها، السائرين على خطى طهرها، وارزقنا في الدنيا زيارتها، وفي الآخرة شفاعتها، واحشرنا في زمرتها مع أبيها وبعلها وبنيها الطيبين الطاهرين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
المصادر و الهوامش
1. الأمالي – الشيخ الصدوق.
2. الكافي – الشيخ الكليني.
3. كامل الزيارات – ابن قولويه.
4. دلائل الإمامة – الطبري الإمامي.
5. روضة المتقين – الشيخ محمد تقي المجلسي.
6. مرآة العقول – الشيخ محمد باقر المجلسي.
7. شرح أصول الكافي – المازندراني.
8. الدرر الموسوية – السيد حسن الصدر.
9. الأنوار الإلهية – المرجع التبريزي.
10. بحار الأنوار – العلامة المجلسي.




