مهنية مخترقة!

مريم الرمضان
أنتِ مفرطة في المهنية!
أنِت تفرطين بالمهنية! باغتتني جملةٌ عابرةُ السبيل في حياتي، صمتُّ دون أن أعلّق، وتركتُها ترمي قنبلتها وترحل!
لم أفهم ما مقصدها، وكيف يكون للمهنية إفراط أو تفريط؟
تحوّلت الكلمات التي كنتُ أقرؤها في كتابي إلى طلاسم، وفكري أصبح مشغولًا بالكلمة نفسها: مهنية… ما هي؟
هل المهنية شكلٌ أبدو عليه بمظهري؟
هل هي سلوكٌ ينعكس على أفعالي؟
أم كلماتٌ أعبّر عنها بصوتي؟
ما المهنية حقيقةً؟
عدتُ كعادتي أبحث في صفحات الإنترنت عن أصل الكلمة ومدلولها ونشأتها، لأعكسها على ما أفهم وأعرف، لأنني اكتشفت أني لا أملك لها تعريفًا يستقر بين أقواس توجّهاتي!
لن أُحوّل مقالتي هذه إلى بحث علمي يثير مللكم كقرّاء، ولكني سأعطيكم عصارة ما وصلتُ إليه:
المهنية خرجت من مفهوم «الإعلان» عن التزام الفرد بسلوك وقواعد العمل الذي يقوم به الإنسان في مجتمعه، سواء كان طبيبًا أو حلاقًا، فلكل صاحب مهنة معيارٌ لمستوى الاحترافية المطلوب، وهو ما يرفع من سمعته في سوقه.
تعمّقتُ لأصل ربط «السلوك» بالمسمّى، وتساءلت: هل الطابع الشكلي للممارس — من حيث المظهر — له ارتباط بمستوى المهنية؟
وكان الارتباط وتأثير الشكل مذهلين بالنسبة لي، فقد قرأت دراسة تقول:
2009 Professionalism Study (Polk Lepson Research Group)
في هذه الدراسة تم سؤال المشاركين عن الصفات التي يربطونها بكلمة «مهنيّ/مهنية».
وأظهرت النتائج أن أهم الصفات كانت: مهارات التفاعل الشخصي (48%)، مهارات التواصل (46.9%)، أخلاقيات العمل (35.4%)، والمظهر (34.2%).
هنا توقفت عن القراءة، وبدأت أتأمل.
ولدي مجتبى كان يرسم على ورقته شغفه الخاص — مجرّات وكواكب — ويعدّد أسماءها بحماس.
قال لي إن حلمه أن يصبح عالم فضاء يطلق مركبات فضائية محمّلة بالبشر، لزيارة الكواكب والاستقرار فيها بعد تريليون سنة!
فكّرت حينها: إن كانت المهنية مجموعة من التفاعلات الشخصية، فهي إذن مرتبطة بسلوك يُغرس فينا منذ الصغر، ليكون منعكسًا على طباعنا المستقبلية.
وأن نجاح أبنائنا في مهنهم مستقبلًا مرتبطٌ بشكل كبير بتفاعلاتنا وتربيتنا لهم حول مفاهيم النجاح، الالتزام، التعلّم المستمر، وتحمل المسؤولية — العناصر الرئيسة للنجاح المهني كما أؤمن بها وكما تعلّمتها.
أنا مختصة إدارة موارد بشرية، وأعمل مستشارًا مهنيًّا من وقتٍ لآخر، في تقديم الاستشارات المتعلقة بالسير الذاتية والتطوير المهني، لذا كانت هذه التعريفات صارخة بالنسبة لي، لأني أراها كل يوم.
المهنية، يا شريكي في الحروف، ليست إطارًا شكليًا تلتزم به، وليست وليدة اعتقادك بأنك ما دمت تمتلك شهادة، فأنت المهني المطلوب!
معايير المهنية عميقة، منعكسة في سلوكك أثناء مسيرتك نحو حياتك العملية.
ولكل مهنة في سوق العمل معاييرها الخاصة، لكن هناك ثلاثة عناصر أساسية تبقى ثابتة:
مهارتك
هي ما تمتلكه باستثمارك في ذاتك، لا بعدد شهاداتك.
هي الالتزام، وتحمل مسؤولية مشقّة المهنة، والسير للأمام دون أن تُخذَل أمام العوائق.
هي القوة التي تستمدها من معرفتك، ومن جذور تربيتك الأصيلة، ومن المسؤولية التي تحملتها في صغرك، حتى أصبحت أساس انطلاقك نحو النجاح.
المهني هو من تتوجّه إليه الأنظار حين تظهر المشكلة!
سلوكك
هو كيف تتصرف حين يتعارض ما تعرفه مع ما لا تعرف، وحين يختلف معك الآخرون، أو يُساء فهمك، أو حين تخطئ.
المهني يدرك أن المهنة ليست مرتبطة بشخصه، وأن هناك فرقًا بين “الوظيفة” و”الإنسان”.
يعرف كيف يتعامل مع الأنماط البشرية المختلفة، ويؤمن أن سرّ نجاحه في التعلم المستمر لكيفية التعامل معها.
الذكاء العاطفي والاجتماعي هو مفتاحه، وأضيف له: الذكاء التصميمي — أن تُعيد تشكيل الموقف بدل أن تنكسر أمامه.
قيمك
وهنا مربط الفرس، وأساس نجاحك في الحياة.
قيمتك أنت، وقيمة وظيفتك، هي ما يمنح عملك المعنى الحقيقي.
ربما يراها الآخرون مهمة بسيطة أو تافهة، لكنك تعرف تمامًا كيف ترتبط بالهدف الأسمى لمكان عملك.
ليس هناك مهمة بلا قيمة.
وحين تباشر عملك، سواء كنت موظفًا أو ربّة منزل أو حرًّا طليقًا، اسأل نفسك أولًا:
ما قيمة ما أفعله بالنسبة للمكان الذي أنتمي إليه؟
إن لم تجد الجواب… فهذه مشكلة!
فلأعد الآن إلى “عابرة السبيل” التي ألقت عبارتها ورحلت…
هل أنا فعلًا مفرطة في المهنية؟
لا أدري!
أعلم فقط — علم اليقين — أني أعرف قيمة ما أفعله، وأعرف قيمي أنا في حياتي.
وأريد لأبنائي أن تكون لهم قيمهم الخاصة، فهي الأساس ليصبح مجتبى يومًا ما عالم فضاء،
حتى إن غيّر رأيه لاحقًا، لا بأس… فليصنع كل يوم شغفًا جديدًا،
وليتعلم معه معنى المسؤولية، والالتزام، وصناعة القيم.
هل أجبتُ عن مفهوم المهنية؟
هل أنا مفرطة؟
لا زلتُ لا أدري…
فأنا أدور حول فلكي، وأترك لكم الدوران في أفلاككم.
وإن كنتم تعرفونني… فعليكم يقع عبء الإجابة عن السؤال!




