أقلام

تعريف الحق بلسان الحق: سرّ الأسماء الإلهية في الآيات الأخيرة من سورة الحشر – الجزء الأول

د. حجي الزويد

منارات العارفين: إشراقة من فكر محمد علي شاه آبادي:

ذكر الشيخ نصر الله شاه آبادي ابن آية الله العظمى محمد علي شاه آبادي، أن والده كان يوصي بتلاوة هذه الآيات الشريفة من سورة الحشر:

“اقرأوا الآيات الثلاث في أواخر سورة الحشر حتى تصبح ملكة في نفوسكم، فأول آثارها بعد الموت وفي الليلة الأولى في القبر أنه عندما يحضر الملكان من قبل الخالق تبارك وتعالى ويسألانك «مَن ربك؟

فقل:

﴿هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ عالِمُ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحمنُ الرَّحيمُ ۝ هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ المَلِكُ القُدّوسُ السَّلامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبحانَ اللَّهِ عَمّا يُشرِكونَ ۝ هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسماءُ الحُسنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾ (١)

فإنك إن أجبتهم بهذا بهتا وحارا لأنه تعريف للحق بلسان الحق، لا بلسان الخلق. (٢)

ما أعمق هذا الموقف العرفاني، وما أرهف هذا التوجيه الذي صدر عن العارف الكبير آية الله العظمى الشيخ محمد علي شاه آبادي (رضوان الله عليه) — ذلك الرجل الذي جمع بين فقه الشريعة وسرّ الحقيقة، فكان مناراته الفكرية تسري من أرض العلم إلى سماء العرفان، وتفتح الطريق لمن أراد أن يسلك إلى الله على بصيرة.

محمد علي شاه آبادي… جسر النور بين الفقه والعرفان :

لقد ترك الشيخ شاه آبادي إرثًا روحانيًا يفيض بالنور والمعرفة، وكان من أعظم ما أوصى به تلامذته وأهل السلوك قوله المشهور:

«اقرؤوا الآيات الثلاث من أواخر سورة الحشر حتى تصبح ملكة في نفوسكم».

هذه الوصية ليست مجرد تلاوة قرآنية للتبرك، بل منهج معرفي وسلوكي عميق، يربط بين الإنسان والحق تعالى على مستوى الوجدان، لا على مستوى الحروف والأصوات فحسب.

المعرفة بالله بين اللسان والوجدان:

الشيخ شاه آبادي لم يكتفِ أن يُعرّف بالله من خلال البرهان العقلي أو الاستدلال الكلامي، بل دعا إلى أن تكون معرفة الحق “بـلسان الحق”، لا بلسان الخلق، أي أن يتحدث الله عن ذاته من خلال كلماته، فتتلقّى الروح هذا النور مباشرة من مصدره، لا عبر الوسائط الفكرية المحدودة.

حين يوصي الشيخ بتكرار هذه الآيات من آخر سورة الحشر، فهو يعلم أن القلوب تتطهّر بالتكرار والتذكّر، حتى تصير الكلمات نورًا ساكنًا فيها، وملكة راسخة لا تزول.

(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ…)

هذه الآيات الثلاث ليست مجرد ثناء، بل هي منهج في التوحيد الوجودي، يرسم للعارف صورةً للحق تملأ أفق الفكر والروح معًا.

تكرار الآيات… تمرينٌ على التوحيد:

التكرار في الفكر العرفاني ليس عادة صوتية، بل تربية ذِكرية، فعندما يقرأ الإنسان هذه الآيات في سكون الليل، مرة بعد أخرى، فإن حروفها تبدأ بالتحول إلى أنوارٍ تفتح أبواب القلب، ويغدو اللسان أداة للوجدان، والعقل خادمًا للروح.

الشيخ شاه آبادي كان يقول لتلامذته:

“إذا كررتم هذه الآيات حتى صارت ملكة في نفوسكم، فإن أول ثمارها تظهر بعد الموت، في الليلة الأولى من القبر.”

ما أعظم هذا الوعد! فالكلمات التي اعتادها اللسان في الدنيا تصبح لسانًا ناطقًا بالحق في البرزخ، حين يسأل الملكان: من ربك؟

فلا يجيب العبد بكلماتٍ من حفظه، بل بما سكن في أعماقه من يقينٍ عرفانيٍ وإشراقٍ قلبي.

تعريف الحق بلسان الحق:

جوهر الفكرة أن الحق سبحانه هو الذي يُعرّف نفسه بنفسه، وأن العارف لا يعرف الله من خلال الصور الذهنية أو المفاهيم المجردة، بل من خلال ما كشف الله له من أسمائه وصفاته في كتابه الكريم.

حين يقول العبد في القبر:

(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ…)، فإنه لا يجيب من ذاته، بل يُطلق كلمات الله بلسانٍ امتلأ باليقين، وكأن الله نفسه هو الذي يجيب عن سؤال “من ربك؟” من خلال العبد الذي فني في معرفته، وهنا تكمن روعة العبارة التي قالها الشيخ:

«فإنك إن أجبتهم بهذا، بهتا وحارا، لأنه تعريف للحق بلسان الحق لا بلسان الخلق».

فهذا هو التوحيد الأسمى، حين يتجاوز الإنسان حدود اللفظ، فيتحدث النور بالنور، ويُعرِّف الوجودُ خالقه من غير حجاب.

أثر الآيات في النفس والبرزخ:

من منظور العرفاء، الإنسان بعد الموت لا يعيش باللسان المادي، بل بما استقرّ في قلبه من معانٍ وأسماءٍ إلهية.

فمن جعل هذه الآيات زاده اليومي، وألِفَ ذكرها حتى صارت سجية قلبه، فإنها تصبح في القبر رفيقة سكونه وأنسه، وتتحول إلى أنوارٍ تدفع عنه الوحشة والخوف.

تلك الكلمات “هو الله” ليست مجرد تعريف، بل هي تجلي الذات الأحدية في وعي العبد، فحين يجيب العبد الملكين بهذه الآيات، يجيب من مقام الشهود لا من مقام الغياب.

الملكان يبهرهما هذا الجواب، لأنه ليس من كلام البشر، بل من كلام الرب الذي سكن في نفس عبده العارف.

سلوك عرفاني ووصية للأحياء:

وصية الشيخ شاه آبادي هي في جوهرها منهج تربوي عرفاني عميق، يعلّم السالك أن لا يكتفي بالعبادة الشكلية، بل أن يجعل الذكر جسرًا نحو المعرفة الشهودية.

تكرار هذه الآيات الثلاث هو تمرين على الحضور الدائم مع الله، وهو تذكير يومي بأن أسماء الله الحسنى ليست ألفاظًا تُتلى، بل حقائق تُعاش وتُجسّد في السلوك، فهو الملك حين نتعامل بعدلٍ ورحمة، وهو القدوس حين نطهر قلوبنا من الغلّ والهوى، وهو السلام حين نصبح مصدر طمأنينة لمن حولنا، وهو الخالق المصوّر حين نتأمل الجمال في الوجود فنراه تجليًا لأسمائه.

بين الشريعة والحقيقة:

ما ميّز الشيخ محمد علي شاه آبادي، أنه لم يفصل بين الفقه والعرفان، بل رأى أن العمل بالشريعة هو بوابة العبور إلى معرفة الحقيقة. ومن هنا، جاءت وصيته بهذه الآيات لتكون تلاوةً مقرونةً بالفهم والتذوق، تجعل العبد يعيش التوحيد في كل أنفاسه، لا فقط عند السؤال في القبر.

والخلاصة:

إن قراءة الآيات الثلاث الأخيرة من سورة الحشر ليست فقط عملًا مستحبًا، بل هي مدرسة في معرفة الله، تنتقل بالإنسان من مرحلة “الإيمان” إلى مرحلة “الإحسان”،

ومن القول “الله ربّي” إلى الشهود القلبي بأنه لا إله إلا هو.

كلمات الشيخ شاه آبادي تُذكّرنا أن الذكر الحقيقي هو ما أصبح طبيعةً في النفس وملكةً في القلب، فإذا نُفخ في الروح عند الموت، خرجت تلك الكلمات من أعماق الوعي لا من طرف اللسان:

هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ…تعريفٌ للحق بلسان الحق، لا بلسان الخلق.

هوامش:

(١) [الحشر: ٢٢-٢٤]

(٢) العارف الكامل: العالم العارف آية الله الميرزا محمّد علي شاه آبادي – مؤسسة العلوم والمعارف الإسلامية ص ٥٩

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى