
مريم الرمضان
أثناء جلسة ضحى الجمعة، وبين مناوشات الأبناء وتنقلنا من موضوع لموضوع، كان هناك سؤال:
من الذي يفوز دائمًا؟
من يملك شهادات أكثر؟
أو من يملك مهارات أكثر؟
وتشعّب النقاش إلى موضوع: من يملك صفات أقرب لأفكار وثقافة الشركة؟
وحينها وقعنا في سؤال آخر:
من المسؤول عن بناء ثقافة العمل؟
الفرد ليكون مناسبًا للعمل؟
أم الشركة لتساهم في تأسيس موظفين صالحين للعمل؟
انتهى النقاش بجواب حاسم من أحد المشاركين المتقاعدين من شركة وجّهت ثقافتها معه بشكل صحيح.
وطبعًا عقلي لم يتوقف عن التفكير،
واستمر في محاولة فهم الجذور الواقعية، والإبحار في مفهوم الثقافة العمالية بشكل أصيل وواقعي، لا بالمعاني التي تلقيناها كـ HR.
أمسكت هاتفي وأرسلت لمجموعة كبيرة ومتنوعة السؤال.
مساكم الله بالخير
سؤال أحتاج إجابته بشكل عاجل وسريع.
إجابة بسيطة لا تتعدّى السطر.
حين تقرأ عبارة (الثقافة العمالية)…
ما الذي يطرأ في ذهنك كتعريف لها؟
لا تأخذ وقتًا للتفكير إن كنت تريد مشاركتي فعلًا!
شكرًا على مبادرتك في الإجابة.
مريم
لم أصُغ السؤال بشكل مباشر؛ لأن الجواب الأول هو الذي يعكس فكرة الإنسان الأصيلة تجاه العبارة.
تلقيت العشرات من الإجابات، وتركت الساحة حينها لأعود لاحقًا لأحصي الاستجابات.
وكانت النتيجة:
• 79% من المشاركين رأوا أن تعريفها وواجباتها ترتكز على الموظف.
• 12% عرّفوها بعلاقة تشاركية.
• 8% رأوها قضية وواجبات الشركات.
تأملت الإحصائية، وبدأت أرسل سؤالًا آخر:
هل الإحصائية تراها منطقية أم لا؟
وكانت معظم الإجابات بأنها منطقية ولا غرابة فيها.
بالنسبة لي، كانت الإحصائية موجعة!
وطبيعي يا قارئ الكلمات أن تتعجب، كونك جزءًا من الذين رأوا الأرقام “طبيعية”!
الأغلبية ساروا على ما اعتادوا عليه:
أن الموظف هو الطرف الأضعف، وهو من يستجيب ويطبق الثقافة، وهو الذي يجب أن يعرف حقوقه كي لا يُسلب ويُهان.
الشركة طرف أقوى تملي شروطها؛ فحتى إن لم تكن تمتلك ثقافة عادلة، فأنت أمام خيارين:
أن تخسر وظيفتك… أو تخسر نفسك.
لذا لا تحمل نفسك يا صاحبي عبء ثقافة تُملَى عليك ولستَ المحدد لها.
وهذا مؤشر على واقع سوق عمل بعيد عن كافة معاني البيئة المهنية الصحية.
العالم ليس مثاليًا، وأنت تبحث عن لقمة رزقك ولا تعلم أين تجدها وكيف.
فليس من العدالة أن تحمل نفسك وزر ثقافة لم تقم أنت بتحديدها ولا توجيهها.
خذ حياتك كمثل:
إن كنتَ أبًا أو ابنًا…
من الموجّه لثقافتكم العائلية؟
ومن المسؤول عن تطبيقها؟
ومن أين استقيتم القيم الراسمة لثقافتكم؟
ها قد وصلنا!
ما يقع في عاتقنا هو تبنّي ثقافة العمل الأساسية في سلوكياتنا، وهي مسؤولية تقع على كل من:
الفرد – المجتمع.
وفرض الثقافة العادلة يأتي بارتفاع الوعي الفردي والمجتمعي بثقافة العمل الأساسية:
المسؤولية – التعلم المستمر – الأمانة.
هذه سمات يجب أن تُغرس كي يخفّ اللوم.
فكون السوق يفرض عقوباته على الفرد، فهذا يكشف وجود خلل.
والخلل لا يكمن في طرف دون طرف.
هنا بدأت المشكلة تتضح… لدينا:
1) سوق ذو خلفية ثقافية خلقت شركات قامعة
ثقافة قديمة، وتوجيه كلي، وتمركز قوة…
كلها أنتجت شركات تمارس الهيمنة بدل التمكين،
وترى الموظف تابعًا… لا شريكًا.
2) مجتمع بخلفية ثقافية خلق موظفًا جامدًا
ثقافة خوف، ومظلومية، وانهزام…
تحت ظل ثقافة تنظيمية مهيمنة كانت تبتكر تقليل الحقوق دون توازن في العلاقة.
وهنا أصبحت هناك فجوة ثقافية كبيرة بين ما تراه الشركات وما يراه الموظفون:
• الشركات ترى موظفين غير مبادرين وغير متحلّين بالمسؤولية،
وهو نتاج لسنوات طويلة من ثقافة التوجيه الكلي لا التمكين.
• والموظفون يرون شركات ظالمة مهيمنة تقلل الحقوق،
وهو نتاج لسنوات من تبني ثقافة المظلومية والانهزام.
كيف نردم الفجوة الثقافية؟
الخلل لا يكمن في طرف دون طرف،
فمعالجة الفجوة تحتاج ثلاث جهات:
الشركة – الفرد – المجتمع.
أولًا: دور الشركة (الطرف الأقوى)
1) الانتقال من التوجيه الكلي إلى التمكين
الوضوح – التفويض – الثقة – تحمل تكلفة التعلم.
تمكين بلا تدريب ظلم، وتمكين بلا وضوح فوضى.
2) بناء عدالة تنظيمية حقيقية
عدالة في السلوك قبل السياسات.
عدالة في القرارات، والفرص، والأداء، والتواصل، والاحترام.
3) إعادة تأهيل القيادات
أغلب التشوهات الثقافية تبدأ من المدير المباشر.
يجب تدريبهم، مساءلتهم، وربط سلوكهم بثقافة الشركة…
وإبعاد القيادات السامة مهما كانت نتائجهم المالية.
ثانيًا: دور الفرد (الطرف المتأثر… والمؤثر)
1) التخلص من ثقافة الانهزام
لا بالصدام… بل بالوعي.
الحقوق تُعرف… وتُطالب… وتُحمى.
2) تبنّي المسؤولية والتعلم المستمر
ليس ترفًا… بل سلاح.
من لا يتعلم… يُدار.
3) الوعي المهني
معرفة الحق، ومعرفة الواجب، ومعرفة حدود العلاقة.
ثالثًا: دور المجتمع (الطرف الذي ننساه)
1) تغيير الخطاب حول العمل
من: “اصبر… الوظيفة نعمة”
إلى: “العمل شراكة… والعدالة أساس”.
2) رفع قيمة المبادرة وعدم تجريم الخطأ
مجتمع يخاف الخطأ… يخرج موظفًا يخاف المحاولة.
3) غرس قيم: المسؤولية – الأمانة – التعلم
القيم الأصيلة ليست شعارات دينية… بل مبدأ من أساسيات النجاح.
الخاتمة
لسنوات طويلة…
عاشت الشركات بثقافة الهيمنة.
وعاش الموظفون بثقافة الانهزام.
وحان الوقت — أخيرًا — لنعترف:
لا الشركة تستطيع إصلاح الثقافة وحدها،
ولا الموظف يستطيع حملها وحده.
الثقافة تُبنى على الضفتين… وفي المنتصف بينهما.
إلى أن نصل إلى هذا الوعي
سنظل نكرر نفس السؤال بأشكال مختلفة:
“من يتحمل مسؤولية ثقافة العمل؟”




