
سامي آل مرزوق
تمر السنوات سريعًا وتتبدل معلن الحياة، ولكن يبقى كبار السن رمزًا للخبرة والذكاء العاطفي والمعرفة التي تُكتسب عبر عقود من التجارب والمواقف.
هؤلاء الأشخاص الذين قضوا حياتهم في العمل والتضحية، وساهموا في بناء مجتمعهم، كثيرًا ما يُنسى احتياجهم للوجود والاهتمام بمجرد بلوغهم مرحلة التقاعد. فالحديث عن كبار السن عادةً يتركز على ذوي الاحتياجات الخاصة أو المقعدين، وكأن العمر وحده يحدد قيمة الإنسان أو حاجته للرفقة والدعم الاجتماعي.
ولكن الحقيقة أن كبار السن الأصحاء، الذين لا يواجهون قيودًا جسدية تمنعهم من الحركة، يعيشون أحيانًا عزلة صامته. فلماذا يفعلون في صباحاتهم ومساءاتهم؟ هل يكتفون بالجلوس مع الزوجة والأولاد؟ أم يحتاجون إلى مساحة يلتقون فيها بأقرانهم، يتبادلون الحديث، ويعيشون لحظات التفاعل الاجتماعي التي تُغذي أرواحهم.
في كثير من الأحيان، نجد كبار السن يمارسون رياضتهم اليومية في الحدائق والطرقات، أو يجلسون في أماكن عامة بسيطة، يبحثون عن محادثة قصيرة، عن لحظة يشعرون فيها بأن لوجودهم معنى، وأنهم ليسوا مجرد مراقبين صامتين لزمن يمضي دونهم.
وهنا تتجلى الحاجة الملحة لإعادة النظر في دور الجمعيات والمؤسسات المجتمعية.
لماذا تتركز الجهود فقط على كبار السن المقعدين؟
لماذا لا نرى في مدننا وقرانا ومحافظاتنا مساحات مخصصة، يمكن أن تكون أندية اجتماعية أو مراكز تفاعلية، تتيح للمتقاعدين الأصحاء الالتقاء وممارسة أنشطتهم؟
هذه التساؤلات ليست مجرد فضول، بل دعوة لمراجعة أولويات المجتمع تجاه فئة عمرية تستحق اهتمامًا كاملًا لا عطفًا محدودًا.
عندما نتحدث عن إنشاء نادٍ لكبار السن الأصحاء، فإننا لا نتحدث مكان للجلوس فقط، بل عن فضاء يجمع بين المعرفة والتجارب، والترفيه والتواصل، والأنشطة الثقافية والاجتماعية. مكان يستقبل الشخصيات من خارج المدينة، حيث يمكن للمتقاعدين التعرف على ثقافات جديدة، والاستفادة من خبرات الآخرين، وحتى المساهمة بأفكارهم ومقترحاتهم في مشاريع مجتمعية.
كما أن مثل هذه المبادرة قد تجذب رجال الأعمال والممولين الذين يرون قيمة في الاستثمار الاجتماعي لا مجرد بناء مبانٍ بلا روح.
إن حاجة كبار السن الأصحاء للتواصل ليست رفاهية، بل ضرورة حياتية حقيقية. فالحديث اليومي مع الآخرين، وحضور الفعاليات، والمشاركة في الأنشطة، كلها عناصر أساسية تساعد على الحفاظ على الصحة النفسية، وتحد من شعور العزلة الذي قد يقود إلى الاكتئاب أو التراجع الذهني.
ورغم ذلك، لا يدرك كثير من الناس أن كبار السن، بعد التقاعد مباشرة، يواجهون تحولًا كبيرًا في نمط حياتهم، إذ يجدون أنفسهم أمام فراغ واسع لم يعتادوه. وهذا الفراغ لا يمكن تعويضه بالجلوس في المنزل فقط، مهما كانت الروابط العائلية متينة وقريبة، فهذه المرحلة تحتاج إلى تفاعل حقيقي مع القران، إلى أحاديث تمتد حول الحياة وتفاصيلها اليومية، وإلى فضاءات تمنحهم شعورًا بأنهم جزء من مجتمع حي نشط، لا مجرد أفراد على هامش الحركة الاجتماعية.
إن رؤية كبار السن يجلسون في زوايا الأحياء في مدننا وقرانا دون هدف أو نشاط ليست حالة طبيعية، بل انعكاس لغياب التخطيط المجتمعي الموجه لهم. فالجمعيات تمتلك أراضي واسعة، وتمتلك معها القدرة على تخصيص مساحة تُحول إلى نادٍ أو ديوانية حقيقية للمتقاعدين، تجمع بين المتعة والفائدة وبين الثقافة والترفيه، وتوفر مجالًا لتفاعل اجتماعي حي.
إن مجرد تخصيص قطعة أرض صغيرة لبناء متحف بسيط، أو مركز يجمع المتقاعدين في أنشطة يومية، يمكن أن يُحدث فرقًا هائلًا في حياتهم. فهذه المساحات يمكن أن تتحول على قلب نابض في الحي، مكان يستقبل كبار السن صباحًا ومساءً، يمنحهم شعورًا بقيمة وجودهم، ومساهمتهم في المجتمع. ولن يقتصر الأمر على الجهد المجتمعي فقط، بل سيجد مثل هذا المشروع دعمًا ماديًا كبيرًا من رجال الأعمال وغيرهم بلا شك.
الاهتمام بكبار السن الأصحاء يعني إشراكهم في مناسبات استقبال الشخصيات من خارج المدينة، وتوفير فرص للتعلم المستمر، والاطلاع على الجديد في مجالات الثقافة والفنون والمجتمع. كما يمكن تنظيم فعاليات دورية داخل النادي، مثل حلقات النقاش والقراءات المشتركة، وورش العمل، وزيارات المتاحف والمعرض، وكلها أنشطة تعزز شعورهم بالإنجاز والانتماء. هذا النهج يخرجهم من دائرة العزلة، ويخلق لديهم شعوراً بالتحفيز، وهو شعور غالبًا ما يفتقدونه بعد سنوات طويلة من الانشغال بالعمل والأسرة.
ولعل الملاحظة أن الكثير من كبار السن يفضلون التجمع في أماكن عامة صغيرة، حيث يمكنهم التعرف على أصدقاء جدد، وإعادة التواصل مع أصدقاء قدامى. فتوفر نادٍ وديوانية للمتقاعدين الأصحاء يُعد اعترافاً بحقهم في حياة اجتماعية نشطة، وليس مجرد تقديم خدمات رعاية. ويجب أن يكون هذا الفضاء مصمماً بطريقة تحفز التفاعل، تشمل مقاعد مريحة، وأماكن للنقاش والمطالعة، وأركانًا للأنشطة اليدوية والفنية، وكلها عناصر تجعل كبار السن يشعرون بأنهم محور اهتمام حقيقي.
وليس من الضروري أن تكون تكلفة المشروع عالية، فبالتعاون مع رجال أعمال محليين، يمكن توفير التمويل اللازم للبناء والتجهيز. مع ضمان استدامة المشروع عبر برامج وانشطة دورية. وهذا يوضح أن المجتمع يستطيع إذا أراد، تحويل اهتمامه من مجرد رعاية حدية إلى رعاية شاملة تراعي الصحة النفسية والاجتماعية لكبار السن، وتمنحهم الفرصة للعيش بكرامة ونشاط.
الحديث عن كبار السن الأصحاء ليس مجرد دعوة للاهتمام الرمزي، بل دعوة لفهم إنسانية الحياة نفسها. هؤلاء الأشخاص الذين أضاءوا طريق المجتمع طوال سنواتهم العملية، يستحقون أن تُضاء حياتهم بعد التقاعد أيضاً، لا أن تُترك أراضيهم فارغة، ولا أن تُترك زوايا الأحياء صامتة بلا حضورهم. فإقامة ديوانية، أو نادي اجتماعي للمتقاعدين الأصحاء يعني بناء جسور بين الأجيال، والاستفادة من خبرة المتقدمين بالعمر، وتحفيزهم على المشاركة الاجتماعية الفاعلة.
إن توفير هذه المساحة لا يقل أهمية عن أي مشروع تنموي آخر، لأنه يعالج جانبًا نفسيًا واجتماعيًا حيويًا، ويساعد على الحد من شعور العزلة والاكتئاب الذي قد يواجهه كبار السن. كما أنه يعيد لهم شعور القوة والفعالية، ويجعلهم جزءًا من المجتمع الذي ساهموا في بنائه، بدلًا من مجرد مراقبين صامتين.
وعلى الرغم من أن البعض قد يعتقد أن كبار السن الأصحاء لا يحتاجون إلى هذه المبادرات، إلا أن الواقع يثبت العكس، فالتفاعل الاجتماعي، واللقاءات اليومية، والفعاليات المنظمة، كلها عناصر تعزز جودة حياتهم وتمنحهم شعورًا بالرضا والسعادة.
إن بناء مثل هذه الديوانية أو النادي ليس مجرد مشروع عمراني، بل هو مشروع إنساني يعكس وعي المجتمع بأهمية كبار السن الأصحاء، ويعطي رسالة واضحة بأن الحياة لا تتوقف عن القاعد، وأن لكل عمر دوره وقيمته الخاصة. نحن بحاجة إلى التفكير بشكل أعمق، وإعادة ترتيب الأولويات، لتصبح مجتمعاتنا أماكن يزدهر فيها الجميع، كبارًا وصغارًا، بصحة وسعادة وكرامة. ويبقى السؤال، إذا لم نوفر لكبار السن الأصحاء فضاء للقاء والتفاعل، فأين يجدون أنفسهم؟ وهل يمكن أن نترك خبرتهم وطاقتهم الاجتماعية تضيع في زوايا الصمت والعزلة.



