أقلام

خرابيش مريض65… عكّاز المتقاعدين

عبد الكريم النمر

سألته مبتسمًا، أحاول أن أستعيد بيننا شيئًا من خفّة الشباب:

لمَ تغيّبتَ عن جلستنا الأخيرة؟

وأنت أكثرنا إصرارًا على اللقاء، ولو على فنجان قهوة بارد!

خفض رأسه قليلًا. لا أدري أكان ينظر إلى الأرض أم إلى شيءٍ في داخله…

ثم رفعه ببطء، ولوّح بالعكّاز الذي يتوكأ عليه، وقال بهدوء:

هذا هو السبب.

تجمّدت الكلمات في فمي، وشعرتُ بأن شيئًا ما في صدري انكسر.

لكنني تظاهرت بالخِفّة، وقلت ضاحكًا:

نصف مَن حضروا الجلسة جاؤوا بعكّازات، وبعضهم على كراسٍ متحركة!

ضحكوا حتى دمعت عيونهم… فالعكاز لا يمنع الضحك يا صديقي.

ابتسم، ولكنها كانت ابتسامةً مكسورة، توقّفت في منتصف الطريق.

قال بهدوء:

ليتك تفهم ما أعنيه يا صديقي… ليس المرض هو السبب.

قلت بدهشة:

إذا لم يكن المرض، فماذا إذًا؟

ردّ وعيناه تلمعان بشيءٍ لا يُقال:

العكّاز نفسه… هو السبب.

ضحك كعادته، ضحكةً قصيرة، وقال:

هل تذكر جلسة العام قبل الماضي في واحة الأحساء الجميلة؟

قلت: لا، كنتُ مسافرًا وقتها.

قال: إذًا لم تسمع بما جرى هناك؟

أجبته مبتسمًا: الأحاديث تتشابه يا صديقي… هي نفسها كل عام، ذكريات وضحك وشكاوى من الزمن.

هزّ رأسه وقال:

تلك كانت أول جلسة أحضرها بعد تقاعدي… وأظنها الأخيرة.

سكتُّ لحظة لا أعرف ما أقول، فتابع بصوت هادئ فيه الكثير من الحكمة:

التقاعد، يا صديقي، ليس فراغًا من العمل، بل اختبار جديد للحياة.

بعض المتقاعدين تمتلئ أيامهم بمواعيد لا تنتهي، كأن الزمن يرفض أن يتركهم وشأنهم، وهؤلاء عليهم التفكّر والتأمل أكثر، وتدارك الأمر قبل أن يذوبوا في روتينٍ جديد.

صارت الجلسات مزدحمةً بالأدوية أكثر من الذكريات، وبالأوجاع أكثر من الضحك.

صرنا نتسابق في الحديث عن نتائج التحاليل، نقارن جرعات الأنسولين وضغط الدم، ونسخر من عكّاز هذا وكرسي ذاك.

ثم أكمل بأسى:

ولكن أصعب ما في هذه اللقاءات أنها تتحول أحيانًا إلى ملتقى للأوجاع؛

أحاديث عن الأدوية، وعن ضغط الدم، وعن المفاصل، وعن مَن بقي قويًّا ومَن أنهكه المرض…

حتى أصبحت النكتة عن العكّاز نكتة الموسم.

ثم أكمل بصوتٍ حزين:

ما يثقل الجلسة يا أخي الغالي، أن تنزاح السوالف نحو الأمراض،

فيتحوّل المكان فجأة إلى ملتقى للأوجاع.

تختفي الضحكات ويذبل الفرح، ويحل محلّهما حديث التحاليل والأدوية ومواعيد المستشفيات التي لا تنتهي.

شيئًا فشيئًا، يغدو الحديث ميدانًا للمقارنات الخفية،

بين مَن ظلّ جسده سليمًا، ومَن أثقلته المصائب وأنهكه المرض،

بين مَن يمشي بثبات، ومَن يتكئ على عصاه،

بين مَن يركض ليحرز هدفًا من نصف الملعب، ومَن تحمله عجلات الكرسي المتحرك ولا يشعر أعلاه بما تفعله رجلاه.

وبين حكاية ألمٍ تُروى، وتنهدةٍ تُقال، تختفي البهجة التي اجتمعوا من أجلها،

وكأن للحديث عن المرض عدوى تنتقل من مجلسٍ إلى آخر.

ثم تنهد وقال بصوتٍ واهن:

في تلك الجلسة كنا خمسة نحمل العكّازات… ومع كل نكتة كانت تُلقى علينا، كنا نخسر شيئًا من الفرح.

وفي النهاية اتفقنا –من غير اتفاق– ألا نحضر مرة أخرى.

صمت قليلًا، ثم قال بابتسامة حزينة:

جلسة الأصدقاء القدامى دواء لا يُباع في الصيدليات، دواء مصنوع من الذكريات والضحك الصادق،

ولكن لهذا الدواء آثارًا جانبية…

فبعض الأحاديث تذكّرك بما تتمنى نسيانه، وبعض الحكايات توقظ جرحًا كنت تتمنى لو يبقى نائمًا للأبد.

ثم رفع عينيه نحوي وقال بهدوء عميق:

لم يكن المرض هو السبب لغيابي… ولا تعب الجسد ولا العكّاز الذي اتهمناه…

بل الخوف من أن أعود لأتألم أكثر.

همسة متقاعد:

خفّفوا من أخبار المرض في مجالسكم.

اجعلوا جلساتكم استراحة للروح، لا معرضًا للأوجاع.

لا تجعلوها امتدادًا لعيادةٍ أخرى؛ فالحديث عن الحياة أجمل من الشكوى منها.

وتذكّروا أن أجمل ما في الجلسة ليس عدد الحاضرين، بل دفء الحكاية وصدق الابتسامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى