بشائر المجتمع

رحيل الشيخ عبدالحميد آل عباس انطفاء صوت وامتداد أثر

د. حجي الزويد

فقدت سيهاتُ اليوم واحدًا من أعمدتها الروحية والإنسانية، ورحل عن منابرها صوتٌ اعتاد الناس أن يجدوا فيه السكينة والبصيرة.

غاب إمام جامع أم البنين، الشيخ عبدالحميد منصور آل عباس، بعد عمرٍ أمضاه في خدمة الدين والمجتمع، تاركًا خلفه إرثًا لا يُختزل في كلمات ولا يُنسى بمرور الزمن.

منبرٌ يعرفه النور:

لم يكن الشيخ آل عباس مجرّد خطيب، بل كان رساليًا يحمل المنبر الحسيني بصدق، ويؤدّي رسالته بوعي وروحٍ هادئة تلامس القلوب قبل الآذان.

يُعد الشيخ الراحل أحد أبرز خطباء المنبر الحسيني في المنطقة الشرقية، حيث عُرف بخطابه الهادئ والواعي، وقدرته على إيصال مضامين المدرسة الحسينية بلغة رصينة تجمع بين التأصيل العلمي والبعد التربوي.

كنتُ ـ حينها طبيبَ امتياز ـ أستمع إلى مجالس الشيخ عبدالحميد آل عباس في سيهات قبل أكثر من ستة وثلاثين عامًا، ولا تزال تلك المجالس حاضرة في ذاكرتي بوضوحٍ لا يبهت مع الزمن.

كانت مجالس متميّزة في أسلوبها: مرتّبة في بنائها،منسّقة في محاورها، هادئة في طرحها، وعميقة في مضمونها.

كان الشيخ الراحل يجيد أن يصوغ المجلس كقطعة متكاملة؛ يقدّم الفكرة بخيط من الوضوح، ويربطها بالدليل، ثم يختمها بلمسة تربوية تجعل المستمع يخرج بشيءٍ من النفع والمعرفة.

أسلوبه المتوازن جعل حضوره محبوبًا لدى جمهور واسع، وجعل مجالسه علامة فارقة في الوعي الديني لتلك المرحلة.

كان ذلك الجهد العلمي والمنبري المبكر مؤشّرًا على ما سيصبح لاحقًا مسيرة طويلة من العطاء؛ عطاء أثبت صدقه وعمقه حتى آخر أيام حياته.

ارتقى المنابر في مدن عديدة، وكان حضوره يجمع بين الوقار وعمق المعرفة، فيقدّم خطابًا يفتح الآفاق ويوقظ الوعي ويزرع الطمأنينة في النفوس.

رحلة علمٍ امتدت بين البلدان:

وُلد الشيخ سنة 1382هـ، وبدأ خطواته العلمية الأولى في مدينته، ثم حمل شغفه بالمعرفة وبدأ رحلته التعليمية، ثم عاد إلى المملكة ليواصل الجمع بين الدراسة الحوزوية والأكاديمية.

حصل على درجة الماجستير في التاريخ الإسلامي من الجامعة الإسلامية العالمية عام 1429 هـ، امتد عطاؤه العلمي خارج الحدود، فحمل رسالته إلى دول عدة، وألقى دروسًا ومحاضراتٍ شكّلت حضورًا مؤثرًا في نفوس كثيرين.

أيادٍ بيضاء لا تُنسى:

ترك الشيخ بصمة واضحة في ميادين الخير؛ دعم الأسر المحتاجة، وأيّد مشاريع اليتامى، وأسهم في مبادرات اجتماعية بقي أثرها ملموسًا حتى اليوم، ولم يكن عطاؤه مرتبطًا بالأضواء، بل كان خفيًا، نقيًا، صادقًا.

ومن أبرز بصماته مشاركته في تأسيس مهرجان الزواج الجماعي، ودعمه لمشروع مسجد أم البنين في حي قرطبة، وهو عملٌ سيبقى شاهدًا عليه كلما رُفع الأذان، وكلما دخل مصلٍّ إلى رحاب المسجد.

سيرة تُختتم… وأثرٌ لا ينتهي:

يشكّل رحيل الشيخ عبدالحميد آل عباس خسارة مؤلمة للمجتمع، لما مثّله من دورٍ ديني وتربوي وخيري ترك أثره في أجيال من المؤمنين.

ومع طيّ صفحة حياته، يبقى عطاؤه حاضرًا في المنبر، وفي المشاريع التي ساهم فيها، وفي ذاكرة كل من عرفه أو تتلمذ على يديه أو استفاد من دعمه.

رحل الشيخ عبدالحميد آل عباس، لكن صوته ما زال حيًا في ذاكرة المجالس، وخطواته باقية في الأعمال التي كان سندًا لها، وذكراه ممتدة في قلوب كل من عرفه أو سمع منه أو ناله من عطائه نصيب.

رحمه الله رحمةً واسعة، وجزاه عن دينه ومجتمعه خير الجزاء، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى