أقلام

الرضاعة الطبيعية لغة لا تُترجمها الكلمات

د. حجي الزويد

﴿وَالوالِداتُ يُرضِعنَ أَولادَهُنَّ حَولَينِ كامِلَينِ لِمَن أَرادَ أَن يُتِمَّ الرَّضاعَةَ﴾ [البقرة: ٢٣٣]

الأمومة بين الحليب والروح:

حين تضم الأم طفلها إلى صدرها، لا تمنحه غذاءً جسديًا فحسب، بل تسقيه من نبع روحها ومشاعرها فالرضاعة الطبيعية ليست مجرد قطرات حليب، بل هي دفء حنان، وارتعاش قلب، وملامح وجه تطمئن الصغير بأن العالم آمن، وأنه في حضنٍ لا يخونه.

الحليب مرآة المشاعر:

الحليب الذي يتدفق في ثغر الرضيع يحمل في طياته أكثر من عناصر غذائية. إنه يحمل إشارات خفية من قلب الأم: فرحها، حزنها، قلقها، رضاها. فإذا جلست الأم مطمئنة، تفيض بالسكينة، انعكست تلك السكينة في ارتخاء الطفل وهدوء أنفاسه. وإذا داهمها القلق أو ضاق صدرها، أحس الصغير أن الحليب ثقيل وأن الحضن متعب.

“حليب الأم ليس طعامًا فقط، بل رسالة قلبية تصل إلى الطفل قبل أن تصل إلى معدته.”

لغة لا تُترجمها الكلمات:

الأم تتحدث لطفلها بلا حروف، يقرؤها في عينيها، يسمعها في نبضها، يشعر بها في حرارة بشرتها. الرضيع لا يحتاج إلى لغة معقدة ليدرك ما بداخل أمه، يكفيه أن يلمس روحها في كل رضعة. ولذا قيل إن الرضاعة حوار صامت بين قلبين، يترجمه الصغير بالبكاء أو الهدوء، ويترجمه صدر الأم بالامتلاء أو الانقباض.

“أول لغة يتعلمها الطفل ليست بالكلمات، بل بملامح وجه أمه ونبض صدرها.”

أثر الطمأنينة:

الأم الهادئة تصنع من كل جلسة رضاعة عالمًا صغيرًا من الطمأنينة، حيث يصبح الطفل أكثر استعدادًا للنوم، أكثر التصاقًا بحنانها، أكثر ثقة بأن الحياة يمكن أن تكون رقيقة. وفي المقابل، الأم المنهكة التي تغالب القلق والحزن، تجد طفلها متململًا، كأنه يشاركها ثقل اللحظة، ويصرخ بدلًا عنها.

“إذا ابتسم قلب الأم، ابتسم فم طفلها؛ وإذا اضطرب قلبها، انعكس الاضطراب في عينيه.”

الرضاعة… صلاة صامتة:

كثير من الأمهات يشبهن لحظة الإرضاع بأنها صلاة صامتة. في تلك اللحظة تنطفئ صخب الدنيا، ويذوب كل تعب أمام عيون صغيرة تستكين عند الصدر. وهنا تتحول الرضاعة إلى عبادة حب، وإلى سرّ مقدس يتوارثه الأطفال في وجدانهم كأول تجربة أمان عرفوها.

“الرضاعة ليست مجرد عادة يومية، بل طقس مقدس بين الأم وطفلها، حيث يسجد الحب في حضن الحليب.”

الطفل مرآة الأم:

ليس غريبًا أن يكون الطفل أحيانًا أكثر هدوءًا حين تهدأ أمه، وأكثر قلقًا حين تضطرب. فهو مرآتها الصافية التي تعكس ما لا تبوح به الكلمات. فإذا أرادت أن ينام قرير العين، عليها أن تُسكن قلبها أولًا. وإذا رغبت أن يشرب بسلام، عليها أن ترتوي هي من منابع الطمأنينة.

“الأطفال مرايا نقية، تعكس صفاء أمهاتهم أو قلقهن بصدق لا يعرف التزييف.”

خاتمة:

المشاعر هي الغذاء الخفي الذي لا يُكتب على علبة حليب ولا يُقاس بالملليلترات. إنها زاد الروح الذي يرافق الطفل عمرًا بأكمله. فليست الأمومة مجرد عملية بيولوجية، بل هي سفر طويل يبدأ من أول قطرة حليب، ولكنه لا ينتهي إلا مع آخر نبضة حب.

“الأم لا تطعم طفلها بالحليب فقط، بل تطعمه بالحب، والطمأنينة، وكل أسرار الحياة.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى