
السيد فاضل آل درويش
ورد عن مولاتنا فاطمة الزهراء (ع): (وجعل الله الصلاة تنزيها لكم عن الكِبر)(رياحين الشريعة ج ١ ص ٣١٢).
هذا المعين المعرفي يرسم لنا معالم علاقة العبد بربه وما تحمله العبادات من مضامين أخلاقية تبني شخصية الإنسان، فالأمر لا يقتصر على صياغة الذات أخلاقيًّا وروحيًّا وتربويًّا وإكسابها معاني الطمأنينة والأمل بالله تعالى والثقة بتدبيره، ولكنه يتعدّى إلى الجانب الاجتماعي وبيان مقومات العلاقات الاجتماعية الراسخة والناجحة، وذلك بخلوها من معاول الهدم والتوتر وخلق العداوات كعامل التكبّر واستصغار الآخرين والتعامل معهم بفوقية.
وهذه الحكمة الفاطمية تختزل المنظومة القيمية للعبادات وما تعكسه الصلاة من أخلاقيات تسهم بدور كبير في تهذيب النفس وتطهيرها من أخطر الرذائل الأخلاقية وهو الكِبر، وما أعظمها من مشهدية جميلة نجد فيها العلاقات الاجتماعية يسودها الاحترام وتقدير الآخر وكلمته ورأيه وإن اختلفنا معه، وجوهر الصلاة بناء روح التواضع والتعامل الحسن مع الغير حتى وإن امتلكنا القدرات والمهارات المختلفة، فما هي وجهة النظر الأخلاقية لرذيلة التكبر والإحساس بالتعالي واستقزام الغير والتعامل معهم وفق هذه المعادلة الخاطئة؟
التكبر شعور بكمال الذات واستغناء عن الآخر ويمتد هذا الشعور على مستوى العلاقة بالخالق، وهذا إبليس قد فقد تلك المكانة العالية بالتعبد مع المحيط النوراني (الملائكة)، بسبب شعوره بالاستعلاء على العنصر الطيني (آدم (ع) ) لما أمره الله تعالى بالسجود فأبى واستكبر، فالتكبّر ومضة فكرية فاسدة يتحرك الفكر من خلالها وفق موازين خاطئة، وذلك باستشعار الفوقية على الغير وانعكاس هذه الفكرة على سلوكياته وتصرفاته، فالتكبّر مصدر وأصل لكثير من الخطايا والسلوكيات المنفرة على مستوى العلاقات الاجتماعية، ومنها صفة العناد وعدم تقبل الرأي الآخر مهما كانت مستنداته العقلية، كما أنه في حديثه يتكلّم عن الغير باحتقار وتصغير الشأن، كما أنه يرفض مطلقًا فكرة توجيه النصيحة له والنقد الإيجابي المتعلّق بأي أمر من شؤونه، وهذا يعني أن التكبّر ليس مشكلة أخلاقية فحسب بل هو حاجز معرفي يمنع الإنسان من رؤية الحقيقة والإنصات لصوت الحق والفضيلة.
والصلاة ميدان تربوي يهدف – في أحد مضامينه – إلى اقتلاع جذور التكبّر من النفس، فحين يقف الإنسان بين يدي الخالق، ويقول: (مالك يوم الدين) فإنه يدرك هشاشته وافتقاره في جميع أموره، وهذا الإدراك – في كل ركعة – يعيد صياغة شخصية المصلّي فيتراجع وهم الذات المتعالية ويحل محلّه شعور العبودية المتّسق مع حقيقة دار الدنيا ودار الآخرة.
والسجود يضع أشرف أعضاء الإنسان (الجبهة) على التراب في ممارسة تصنع روح التواضع والتذلل للحق ويعيد تشكيل البنية النفسية للإنسان ويدفع عنه بذرة تضخم الذات والإحساس بالفوقية الزائفة،
فالصلاة تذكر الإنسان دومًا بأن هناك قوة عليا تمسك بالحياة ومسار التدبير وتقرير المصير، هذا التنظيم المعرفي الذي يحياه المصلي بفكره ووجدانه يقلّل من تضخم الأنا ويعيد الإنسان إلى حجمه الحقيقي.




