
د. حجي الزويد
مقدمة
تحتل السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مكانة استثنائية في الوجدان الإسلامي والتراث الروائي عند المسلمين، سنة وشيعة. ولم يكن هذا المقام وليد العاطفة أو الانتماء المذهبي فحسب، بل استند إلى نصوص نبوية ثابتة أكدت فضلها واصطفاءها. ومن أبرز تلك النصوص حديث «سيدة نساء العالمين» الذي تضافرت على روايته مصادر متعددة، منها ما أورده ابن سعد في الطبقات، وما أورده الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين، إضافة إلى روايات أخرى متواترة المعنى في كتب الحديث.
في أواخر أيامه، حين كانت أنفاس النبوّة تخفُّ شيئًا فشيئًا، وكان نورُ الرسالة يتهيّأ لآخر إشراقٍ له في الدنيا، التفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى فاطمة، تلك التي لم تكن ابنةً فحسب، بل كانت قلبه الذي يخفق خارج جسده، وظلّه الذي يمشي بين الناس، ونَبض الرسالة في بيتٍ صغير يضجُّ بالقداسة.
اقترب منها، وهي تقرأ في قسمات وجهه شؤون الآخرة، فابتسم لها تلك الابتسامة التي تشبه فجرًا لا يعرف الغياب، وقال بكلماتٍ حفرتها السماء قبل أن ينطق بها اللسان:
«يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين؟»
كانت الكلمات أشبه بتاجٍ من نور، واعترافٍ نبويٍّ بمقامٍ لم تطأه قدم امرأة، مقامٍ يعلو على الزمن، ويعبر قرون البشرية بأكملها ليعلن:
إنّ في العالم امرأةً واحدةً بلغت هذا الشرف؛ امرأةً فاقت بكمالاتها جميعَ الكمالات التي حازتها النساءُ الكاملات: مريمُ، وآسيةُ، وخديجة.
يحاول هذا المقال تحليل الروايتين المشار إليهما في الأعلى، واستجلاء أبعادهما اللغوية والعقائدية والتاريخية، مع إبراز دلالاتهما على المقام الرفيع للزهراء (عليها السلام).
أولًا: دراسة الروايات الواردة:
1. رواية ابن سعد في «الطبقات»
يروي محمد بن سعد بسنده:
أخبرنا الفضل بن دكين، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن فِراس، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، في حديث طويل عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لفاطمة (عليها السلام):
«أمَا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة أو نساء العالمين؟» (١)
تحليل السند:
• الفضل بن دُكين: من كبار الحفاظ الثقات.
•زكريا بن أبي زائدة: ثقة متقن، من رواة الصحيحين.
• فراس بن يحيى: ثقة.
• الشعبي ومسروق: من كبار التابعين وفقهائهم.
• عائشة: أم المؤمنين، أم المؤمنين.
السند قوي، مع اتصال الطبقات، مما يزيد الرواية قوة واعتبارًا.
2. رواية الحاكم النيسابوري في «المستدرك»
يقول الحاكم في روايته: عن مسروق، عن عائشة، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي توفي فيه:
«يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين؟»(٢)
قيمة الرواية:
• الحاكم صحّح الرواية على شرط الشيخين.
• الذهبي وافقه في مواضع، مع أن الرواية لها شواهد كثيرة.
• ورود الحديث في مرض الوفاة يعطيه أهمية خاصة؛ ولأن الحديث جاء في ساعات الوداع، فقد اكتسب هيبةً خاصة؛ فمخارج النَّفس الأخير لا يحمل إلا أصدق الحقائق.
لِمَ قال النبي هذا اللقب في مرضه؟
لأن اللحظات الأخيرة، حين تكون الأرواح على مشارف الرحيل، لا تقبل المديح العابر، ولا الكلمات المكررة.
إنها لحظات الحقيقة العارية من كل مجاملة.
وهناك، في ذروة الصدق، كرّر النبي صلى الله عليه وآله، وهو الذي لا ينطق عن الهوى: «ألا ترضين يا فاطمة؟»، وكأنه يريد أن يورّث الأمة وصيةً: إن مقام فاطمة ليس شأنًا عائليًا، بل شأنًا إلهيًا، وأن حفظ مكانتها هو حفظٌ لحرمة الرسالة نفسها.
ومن الشواهد أيضاً ما ذكره ابن حَيّان الأندلسي في البحر المحيط، إذ قال:
” قال بعض شيوخنا : والذي رأيت ممن اجتمعت عليه من العلماء ، أنهم ينقلون عن أشياخهم: أن فاطمة أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات لأنها بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ” (٣)
كما أورد الألوسي في تفسير روح المعاني حديثا عن ابن عباس : ” عن ابن عباس عن النبـي صلى اللَّـه عليه وسلّم أنه قال: «أربع نسوة سادات عالمهن، مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخدجية بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى اللَّـه عليه وسلّم وأفضلهن عالماً فاطمة» ….. ثم قال الألوسي مبينا رأيه : ” والذي أميل إليه – أن فاطمة البتول أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات من حيث إنها بضعة رسول اللَّـه صلى اللَّـه عليه وسلّم بل ومن حيثيات أخر أيضاً.” (٤)
ثانيًا: الدلالات المحورية للقب «سيدة نساء العالمين»:
1. شمول اللقب لكل الأزمنة:
قول النبي «سيدة نساء العالمين» يدلّ على:
• نساء عصرها
• نساء الأمم السابقة
• نساء الأمم اللاحقة
• جميع النساء إلى يوم القيامة
وهذه الدلالة الزمنية الشاملة لا تُعطى إلا لامرأة بلغت مقامًا لا يُدانيه مقام.
2. البعد الروحي والعقدي:
يتناسب هذا اللقب مع صفات الزهراء (عليها السلام) الواردة في الروايات:
• الطهارة المطلقة: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا».
• العلم اللدني: فهي من «المُحدَّثات» حيث كانت الملائكة تكلمها.
• الصبر والجهاد بعد وفاة النبي.
• أمومة الأئمة المعصومين، وحمل لواء الامتداد الروحي للنبوة.
3. البعد الاجتماعي والإنساني:
كونها «سيدة نساء الأمة» يعني أنها نموذج في الأخلاق، و معيار للمرأة المسلمة، و قدوة للعلم والعفة والزهد، ومشاركة رسالية في دعم النبي (صلى الله عليه وآله) داخل الأسرة، وهو موقع بالغ الحساسية.
4. البعد السياسي والتاريخي:
إن النبي لم يكتف بذكر فضل فاطمة مرة واحدة، بل كرره في حياته اليومية، و خطبه، وعند مرض وفاته.
وذلك ليحفظ حقها، وليشير إلى مقامها الذي أراد بعض التاريخ أن يطمسه، وليؤكد على مكانتها كامتداد روحي للرسالة.
تكرار اللقب كان توثيقًا نبويًا ليبقى محفورًا في ذاكرة الأمة.
ثالثًا: المقارنة مع النساء الكاملات في القرآن:
ذكر القرآن أربع نساء كاملات:
1. مريم بنت عمران
2. آسية بنت مزاحم
3. خديجة بنت خويلد
4. فاطمة بنت محمد
لكن الروايات تجمع أن الزهراء أفضلُهن جميعًا، لأنها، جمعت بين مقاماتهن، وفاقت عليهن في الكمالات، وكانت معصومة الطوية، ونشأت في حضن الوحي، حملت نور الإمامة بحكم كونها أم الأئمة الطاهرين.
رابعًا: شواهد أخرى تؤكد مقامها:
1. حديث «فاطمة بضعة مني»
«يؤذيني ما آذاها، ويرضيني ما أرضاها» دليل على التلازم الروحي بين النبي وابنته.
2. حديث «إن الله يغضب لغضب فاطمة»:
النبي صلى الله عليه وآله مخاطبًا ابنته السيدة فاطمة:
(٥)” إنَّ اللهَ يغضَبُ لغضبِكِ ويرضى لرضاكِ “.
يُعَدّ هذا الحديث الشريف من أعظم النصوص مكانةً في بيان خصوصية السيدة فاطمة عليها السلام، فهو ليس مجرد إخبار عن منزلة رفيعة، بل هو إعلانٌ نبويٌّ صريح بأنّ مشاعرها ميزانٌ تُوزَن به رضوانات الله وغضبه. إنّ ارتباط غضب فاطمة برضا الله ليس علاقة مجازية أو رمزية، بل دلالة على نقاء باطنها، وطهارة إرادتها، وتوافقها الكامل مع إرادة السماء؛ إذ لا يصدر منها إلا ما يوافق الحقّ، ولا تتحرّك مشاعرها إلا وفق ميزان العدل الإلهي.
ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث الشريف على عصمتها المطلقة عليها السلام، إذ لا يمكن أن يغضب الله لغضب بشرٍ يخطئ أو ينفعل بهوى، وإنما يغضب لغضب مَن كان غضبُه ورضاه امتدادًا لنور الحق، ومجلىً لمشيئة رب العالمين. وهذه منزلة لم تُمنح في تاريخ البشرية إلا لفاطمة الزهراء، مما يدل على أنّها ليست مجرد امرأة صالحة، بل إنسانة اصطفاها الله لتكون مرآة نقية تعكس مشيئته، ومثالًا كاملًا في الإرادة الطاهرة.
وبذلك يصبح الحديث شاهدًا بيّنًا على قداستها ومقامها الإلهي المخصوص، ودليلًا منيرًا على أنّ سيرتها ليست شأنًا تاريخيًا، بل حجّة لازمة، وآية باقية على طهر الرسالة في امتدادها الإنساني.
3. حديث «حوراء إنسية»
يشير إلى طهر ملكوتي يجمع بين معاني الروح وخصائص البشر.
4. حديث : ” أَمَا تَرْضَيْنَ أنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أهْلِ الجَنَّةِ -أوْ نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ.” (٦)
هذا الحديث النبوي الجليل — «أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ» — ليس مجرد إخبار بفضل، بل هو إعلان نبويٌّ عن مقامٍ فريد من الطهر والرفعة، لا يُنال بالقرابة وحدها، بل بصفاء القلب، وعمق العبادة، وصدق الموقف.
وإذا كان الخطاب موجّهًا إلى فاطمة عليها السلام في لحظات مرض النبي ﷺ — وهي سويعات تتكثف فيها الوصايا وتتعالى فيها الحقائق — فإن معنى الحديث يكتسب هيبة اللحظة وأمانة الختام؛ فالرسائل الأخيرة تكون عادةً أصدق كشفًا وأوضح دلالة على المقامات.
هذا الترضية النبوية ليست تهدئة خاطر، بل هي شهادةٌ خالدة بأن فاطمة بلغت ذروة الكمال الإنساني والإيماني، حتى صارت ميزانًا للرضا الإلهي في نصوص أخرى: «إن الله يغضب لغضب فاطمة».
فهي سيّدة، لا لأنّ أحدًا سمّاها كذلك، بل لأن السيرة والابتلاء والصفاء صاغت منها أنموذجًا تتقاصر دونه العبارات.
خامسًا: الرسالة التي أراد النبي تثبيتها بالأحاديث
من خلال صيغة الحديث والمنطوق السياقي، يُلاحظ أن النبي أراد:
1. توثيق مقامها قبل وفاته، حتى لا يجهل المسلمون قدرها بعد رحيله.
2. تهيئة المسلمين لتلقي وصاياها ومواقفها، بل جعْل احترامها معيارًا للإيمان.
3. تثبيت حقّها في الولاية الروحية التي كانت امتدادًا لولاية النبيّ.
4. حماية تاريخها من التزييف بإعطائها لقب لا يمكن لأحد تجاوزه أو إنكاره.
الخاتمة:
إن روايات «سيدة نساء العالمين» ليست نصوصًا عابرة، بل وثائق نبوية عظيمة تضع السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في موقع قيادي روحي وروائي وتاريخي لا يرقى إليه أحد من نساء العالم كافة، من الأولين والآخرين.
أثبتت هذه الروايات ـ سندًا ودلالة ـ أنها:
• أنموذج المرأة الكاملة
• القمة الأخلاقية والروحية
• وارثة النبوة وأم الأئمة
• الوجه الأنقى في تاريخ الإسلام
سيدة نساء العالمين ليس لقبًا، بل هوية:
لم يكن النبيّ يختار كلماته عبثًا؛ فهو الذي لا ينطق عن الهوى، وحين قال «سيدة نساء العالمين»، فإنه لم يكن يرسم صفة، بل كان يكشف حقيقةً مكنونة: أن فاطمة (عليها السلام) هي قمّةُ الطهر الإنساني، وامرأةٌ تجلّت فيها أصفى مكارم الخلق، ومقامٌ سماويٌّ نادر لا يُمنح إلا مرّةً واحدة في تاريخ الخلق.
إنه إعلانٌ للعالم أن هذه السيدة ليست كبقية النساء:
هي ابنة النور، وأمّ الأئمة، وبضعة رسوله، وحجّة الله على خلقه، ومرآة الجمال الإلهي في الأرض.
ومهما كتب الباحثون في شأنها، تبقى فاطمة (عليها السلام) أكبر من أن تحيط بها الكلمات، فهي شمس البيت النبوي، ومعدن الطهر، ورمز الرسالة، وسيدة النساء من الأولين والآخرين.
هوامش:
(١) الطبقات الكبرى، محمد بن سعد: ٨/ ٢٦ – ٢٧، السنن الكبرى، النسائي: ٤/ ٢٥٢، الذرية الطاهرة النبوية، الدولابي: ١٤٢ ح ١٧٩، الاستيعاب، ابن عبد البر: ٤/ ١٨٩٥.
(٢) المستدرك، الحاكم النيسابوري: ٣/ ١٥٦.
(٣) تفسير البحر المحيط لابن حيان الأندلسي- تفسير الاية ٤٢ من سورة آل عمران
(٤) تفسير روح المعاني للألوسي – تفسير الاية ٤٢ من سورة آل عمران
(٥) مجمع الزوائد الصفحة أو الرقم :9/206
التخريج : أخرجه ابن أبي عاصم في ((الآحاد والمثاني)) (2959)، وأبو يعلى في ((المعجم)) (220)، والدولابي في ((الذرية الطاهرة)) (235)، والطبراني (1/ 108) (182)
(٦) صحيح البخاري.




