
زاهر العبدالله
مقدمة
قالت الصدقة فاطمة الزهراء عليها السلام.
«أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمّن القلوب موصولها، وأنار في الفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته».
تُعدّ الخطبة الفدكية للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من أهم الوثائق الخطابية التي امتازت بالفصاحة الخلاقة في التراث الإسلامي، لما تتضمنه من عمق معرفي وبنيةٍ حجاجيةٍ رصينة. وقد مثّلت هذه الخطبة مصدرًا غنيًا للباحثين في قضايا العقيدة والفقه والتاريخ والبلاغة، إذ تُعد أنموذجًا راقيًا في عرض المفاهيم التوحيدية والتنزيهية، فهي تؤسس لرؤية قرآنية شاملة لمفهوم التوحيد بوصفه أصلًا للمعتقد وسندًا لكل بناء معرفي وروحي في الإسلام وذلك للأسباب التالية:
أولًا: البعد المفهومي للتوحيد في الخطبة الفدكية
ينطلق مبحث التوحيد في الخطبة الفدكية من الأساس القرآني الذي يرى أنّ التوحيد هو محور الرسالات السماوية وغاية الوجود الإنساني. فالسيدة الزهراء (ع) تُقدّم تعريفًا محكمًا للتوحيد يقوم على التنزيه عن التشبيه والتجسيم، وعلى ربط الإيمان بالله بالإخلاص والفهم العقلي والالتزام العملي. فهي تؤكد أن كلمة التوحيد ليست مجرد شعارٍ قولي، بل حقيقة وجودية تتجلّى أثرها في القلب والفكر والسلوك.
ثانيًا: الأسس المعرفية للتوحيد في الخطبة
يتضمن النص التوحيدي في الخطبة مجموعة من الركائز المعرفية التي تشكل البناء العقائدي للمسلمين، وأبرزها:
1. وحدة الذات الإلهية وتنزيهها
تقول (ع):
«أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمّن القلوب موصولها، وأنار في الفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته.»
في هذا النص يظهر الطابع الفلسفي والكلامي للتوحيد من خلال نفي الإدراك الحسي والإحاطة العقلية بذات الله سبحانه، مما ينسجم مع مبادئ التنزيه المعتمدة في علم الكلام وأصول الإعتقاد الإمامي.
2. التلازم بين التوحيد والعقل
فالخطبة تجعل من التوحيد عملية معرفية تتجاوز التقليد إلى التفكير الواعي وإدراك المعنى العقلي للوجود الإلهي:
فحين نقف عند قول الصدقة فاطمة (عليها السلام) «وأنار في الفكر معقولها».
أي إن نور التوحيد يُدرَك بنور العقل، الأمر الذي يربط العقيدة بسُلّم البرهان، وهو اتجاه واضح في مدرسة أهل البيت (ع).
3. التوحيد كمنهج روحي وسلوكي
لا يُفهم التوحيد في الخطبة كموضوع نظري فقط، بل كمنهج عملي يظهر أثره في الطاعة والتقوى والالتزام بالشرع، فالإخلاص هو التأويل الواقعي لكلمة التوحيد.
ثالثًا: الأبعاد الكلامية والفلسفية للنص التوحيدي
يمثل النص التوحيدي في الخطبة نقدًا واضحًا للأفكار التي قد تذهب نحو التجسيم والتشبيه أو إسقاط المفاهيم البشرية على الذات الإلهية. فالنفي الثلاثي (الرؤية، الصفة، الكيفية) يعكس منهجًا دقيقًا في فهم التوحيد وأبعاده وذلك بما يلي:
1-نفي الرؤية البصرية: تنزيه الله عن الإدراك الحسي
2-نفي الوصف اللغوي: قصور اللغة عن الإحاطة بحقيقة الذات
3-نفي التحديد الذهني: رفض محاولة تحديد الكنه الإلهي بعقل الإنسان
وهذه المرتكزات تمثل الأساس في اللاهوت الإسلامي ، حيث يلتقي مع الإيمان بأن ذات الله فوق الإدراك والتحديد.
رابعًا: التوحيد أساس الولاية والعدل
لا يظهر التوحيد في الخطبة كقضية منفصلة، بل كقاعدة تُبنى عليها بقية المفاهيم الرسالية، خصوصًا الولاية وقيادة الأمة. فالانحراف عن الولاية يعني – في بنيتها الحجاجية – انحرافًا عن مقتضى التوحيد لأنّ طاعة الله مرتبطة بطاعة رسوله وأوليائه. وهو ما يُبرز البعد القيادي والريادي للتوحيد في سياق الدفاع عن الحق الشرعي لأمير المؤمنين (عليه السلام ).
خاتمة
يُظهر تحليل مبحث التوحيد في الخطبة الفدكية أن السيدة الزهراء (ع) قدمت رؤية عقائدية متكاملة تُبنى على التنزيه العقلي والإخلاص الروحي والالتزام العملي. فالخطبة لا تكتفي بتقرير وحدانية الله، بل تجعلها محورًا لفهم الدين والإنسان والمجتمع والسلطة. ومن هنا تأتي أهمية هذا النص في الدراسات العقدية والكلامية المعاصرة، بوصفه مرجعًا غنيًا لفهم جوهر الإسلام في أصفى وأنقى صوره. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطيبين الطاهرين
مصدر الخطبة الفدكية:
الحجّة الغرّاء على شهادة الزهراء عليها السلام ] ، الصفحة : ۷٦ ـ ۹۹




