
المترجم : عدنان أحمد الحاجي
بقلم تيجل غروتسواجرز، زميل أبحاث أول في علم الأعصاب الإدراكي، جامعة غرب سيدني، ودانييل فيوريجيل، رئيس مختبر التنبؤ واتخاذ القرار، جامعة ملبورن
في شهر نوفمبر من كل عام، تأتي الجمعة السوداء (يطلق عليها في البلاد العربية الجمعة البيضاء) (1) حاملةً معها ادعاءاتٍ بخصوماتٍ هائلة وعروضٍ تجارية تستمر ليومٍ واحد. عروضٍ تبدو هائلة ومغرية جدًا تغمر المتسوقين، ما يصعب عليهم غض النظر عنها أو تجاهلها، لكن وراء كل هذا يكمن سرٌّ أكثر استراتيجيةً.
الجمعة البيضاء ليست مجرد يومٍ واحد إذ أصبح الآن يستمر لفترة تتجاوز أسبوعين من العروض والخصومات. وتعتبر أيضًا حدثًا سيكولوجيًا وخدع ذهنية يوظفها التجار لتشجيع المتسوقين على الشراء، مستخدمين أساليب سيكولوجية خاصة تستغل كيف تتخذ الأدمغة قراراتها.
إذا فهمنا هذه الخدع والجوانب العلمية التي وراءها سنتمكن من أن ندرك متى نقع فريسة التجار وننفق أكثر مما ننوي، ونتخذ قرارات أكثر ذكاءً.
هيّا، هيا، لا توفتك فرصة تخفيضات يوم الجمعة البيضاء
في العادة، حين نقرر أي شيء نشتري، مثل ما إذا كنا سنشتري جهاز تلفزيون جديد أم لا، يوازن الدماغ كل المعلومات المتوفرة سواء تلك التي مع القرار أو ضده لكل من هذين الخيارين (2). كما نقارن بين الأسعار المطروحة ومميزات السلعة وتقييمات المستهلكين له وما نتحمل شراءه. م بمجرد أن نشعر بأن لدينا معلومات كافية، نتخذ القرار بالشراء.
عادةً ما تستغرق هذه العملية وقتًا. كلما زادت أهمية القرار، زادت المعلومات التي نختاج إلى جمعها وطال التفكير فيها.
قد يكون هذا مفيدًا عندما يكون التصرف السريع أمرًا بالغ الأهمية. لو رأيت عنكبوتًا يدب على ذراعك، فلن تأخذ وقتًا لتُقيّم إيجابيات وسلبيات التخلص منه أو إبقائه، بل ستتخلص منه في الحال.
لكن عندما نكون في عجلة من أمرنا، تعمل أدمغتنا بشكل مختلف. فهي تقلل من كمية المعلومات التي نحتاجها لاتخاذ القرار (3). هذا يعني أننا نتخذ القرارات بشكل أسرع، وبتفكير أقل. بعبارة أخرى، يُجبرنا ضغط الوقت على اتخاذ القرار بشكل أسرع وباستخدام معلومات أقل من اللازم.
خلال الجمعة السوداء، تستغل المتاجر هذا التسرع ضدنا، وتجعلنا نشعر بأننا تحت ضغط الوقت وعلينا اتخاذ القرار في الحال وإلّا ضاعت علينا الفرصة، وهذا قد يدفعنا إلى الشراء بسرعة – وفي بعض الأحيان نشتري أكثر مما ننوي شراءه.
يا إلهي، لقد نفدت الكمية تقريبًا.
إلى جانب استغلال “الشعور بالإلحاح أو الشعور بالحاجة الملحة للشراء تحت ضغط الوقت”، تستغل إعلانات الجمعة البضاء مبدأ “الندرة” (4، 5)، حيث تجعلنا نشعر أيضًا بندرة الأشياء أو بسرعة نفاذها من السوق. نعلم أن التخفيضات لن تدوم طويلًا، وأن الكثير من الناس يتسوقون في نفس الفترة. وهذا يخلق شعورًا قويًا بالتسابق المحموم على الشراء: إن لم نشترِ الآن، فسيشتريه غيرنا.
ونحن نبحث في المواقع الاكترونية عن جهاز تلفاز، يذكر لنا أنه لم يبقٓ منها سواء “ثمانية أجهزة فقط في المخزن”، وأن هناك “12 شخصًا وضعوا هذا المنتج في سلة التسوق.” فجأة، يبدو الأمر وكأنه سباق محموم. حتى لو لم تكن تخطط للشراء الآن، فقد تشعر برغبة أكبر في “إضافة المنتج إلى سلة التسوق” قبل فوات الأوان.
هذا الشعور بالندرة يغير طريقة معالجة الدماغ للمعلومات. عندما نعتقد أن العرض محدود، فإن الدماغ يعتقد أنه لا بد أن يكون أكثر قيمة، ونبدأ بافتراض أن هذا المنتج رائع لمجرد أن الآخرين يرغبون في شرائه أيضًا.
ماذا كنت أفكر؟
حين نتخذ قراراتنا بسرعة، نعتمد على معلومات أقل من اللازم، ونصبح أكثر احتمالًا لارتكاب أخطاء، وهي ظاهرة سيكولوجية معروفة منذ زمن طويل تُسمى “المفاضلة بين السرعة والدقة [آي هناك علاقة عكسية بين السرعة والدقة]” (6).
في ظل ضغط الوقت، يحاول دماغنا إيجاد طرق مختزلة لتقييم الخيارات، مثل عدد المتتبعين للمنتج [ربما لشرائه إذا انخفض سعره]. ولكن قد تكون هذه المعلومات أقل فائدة من تفاصيل، مثل، مدة الضمان أو جودة المنتج أو قيمته في الأمد الطويل.
الإشارة إلى ندرة الشيء قد تثنينا أيضًا عن البحث عن المزيد من هذه المعلومات التفصيلية. إذا بدا أن المنتج على وشك النفاد، فإن أخذ وقت أكثر مما ينبغي لمقارنة الأسعار أو قراءة التقييمات يبدو محفوفًا بالمخاطر، والانتظار يُشعرنا بالمجازفة – ماذا لو نفدت الكمية ونحن لا نزال نفكر في الشراء.؟
تفضل آدمغتنا النتائج المتوقعة وتحاول تجنب تفويت الفرص (7)، لذلك نغض الطرف عن جمع المزيد من المعلومات عن المنتج، ونكتفي بمعلومات أقل من اللازم ونأخذ القرار وتشتري بسرعة.
القرارات السريعة ليست دائمًا أمرًا سيئًا. فالتصرف السريع يمكن أن يوفر الوقت أو يمنع الضرر عندما لا تتوفر لدينا معلومات كافية. قد يتمثل ذلك في إخلاء مبنى عند انطلاق جرس إنذار الحريق، حتى لو لم تكن متأكدين من وجود حريق بالفعل.
لكن خلال الجمعة البضاء، يخلق تجار التجزئة شعورًا مُصطنعًا بالحاجة الملحة للشراء (التسرع في الشراء). تُشعرنا المؤقتات، وساعات العد التنازلي الحمراء، ولافتات “الكمية محدودة،” ولافتات “اليوم فقط” بنفس الضغط الذي نشعر به في حالات الطوارئ وتدفعنا لمحاكاة الندرة الحقيقية، وتدفعنا عقولنا إلى اتخاذ قرارات متسرعة.
وبمجرد أن يتسلل إلينا هذا الشعور بالإلحاح، يتراجع التفكير العقلاني. ونتوقف عن سؤال “هل أحتاج هذه السلعة فعلًا؟” ونبدأ بالتفكير “ماذا لو فاتني؟”
وهكذا ينتهي بنا الأمر بشراء تلفزيون جديد أفضل بقليل من الذي نملكه بالفعل.
قد تبدو الجمعة البيضاء حدثًا ضخمًا لتوفير المال، لكنها أيضًا تعتبر درسًا في علم السلوك وكيف تعمل أدمغتنا. كل مؤقت، وتنبيه، ونافذة زمنية مُصممة لجذب الانتباه ودفع المستهلكين لاتخاذ قرار أسرع بالشراء. معرفة هذه الحيل يُساعد على التحكم في القرار، وتجعلك المتحكم فيما ترغب في شرائه، لا تلك التخفيضات المغرية. معرفة كيف تعمل هذه التكتيكات تساعد على التحكم في اتخاذ القرار.
أربع نصائح للتحكم في الاندفاع واتخاذ قرار الشراء تحت تأثير الندرة وضغط الوقت:
1- خطط قبل أن تضطر تحت ضغط الوقت للشراء – ابحث عمّا تحتاجه بالفعل واحصل على المعلومات التي تحتاجها قبل موسم التخفيضات. هذا سيساعدك حين تصبح مضطرًا لاتخاذ قرارات تحت تأثير الإلحاح وضغط الوقت والتسرع في الشراء.
2- ضع لك ميزانية شراء واضحة – حدد المبلغ الذي ترغب في إنفاقه على المشتروات وذكّر نفسك به أثناء التسوق. هذا يساعدك على مواجهة “تأثير الندرة”، فلا تنسٓى حدودك لمجرد أن سلعة ما تبدو لك نادرة بفعل الإعلانات التجارية.
3- توقف قبل الشراء – عندما تشعر بالضغط، خذ دقيقة. هذه المهلة تساعد عقلك على استيعاب هذا الحماس والإحساس بإلحاح الشراء والاندفاع اليه.
4- اسأل نفسك: “هل أريد هذه السلعة بسعرها العادي (قبل التخفيض)؟” هذا يساعد ذهنك على التركيز على القيمة الفعلية للسلعة.
لا بأس بالاستمتاع بشراء سلعة مخفضة السعر. ولكن عندما تجد نفسك في خضم كل هذا الحماس، من المفيد أن تتذكر ما يدور في ذهنك، ومن المستفيد من هذا الاندفاع والتسرع في الشراء بالفعل.
الهوامش
1- https://ar.wikipedia.org/wiki/الجمعة_السوداء
2- https://adnan-alhajji.blogspot.com/2024/07/blog-post_13.html?m=1
3- https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0166223609001556
4- https://link.springer.com/article/10.1007/s11747-018-0604-7
5- https://adnan-alhajji.blogspot.com/2023/11/blog-post_3.html?m=1
6- https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/0001691877900129?via=ihub
7- https://www.nature.com/articles/s42003-021-02850-3
المصدر الرئيس
https://theconversation.com/heres-what-black-friday-sales-shopping-does-to-your-brain-269591




