
د. حجي الزويد
مقدمة:
تنتشر بين الأمهات العديد من المفاهيم الخاطئة حول تأثير الرضاعة الطبيعية في صحة العظام، ويُعتقد أحيانًا أن الرضاعة “تسحب الكالسيوم من عظام الأم” وتُعرّضها لخطر هشاشة العظام أو آلام المفاصل. ولكن هذه الفكرة الشائعة ليست دقيقة من الناحية العلمية.
تشير الأدلة الطبية الحديثة إلى أن الرضاعة الطبيعية، لدى الأمهات السليمات ذوات التغذية الجيدة، لا تُسبب ضعفًا دائمًا في العظام، بل تمثل مرحلة فسيولوجية مؤقتة تتكيف فيها العظام مع احتياجات الأم والرضيع.
في هذا المقال، سنستعرض الحقائق الطبية حول ما يحدث للعظام أثناء الرضاعة، ونوضّح الأسباب الحقيقية لآلام المفاصل التي قد تعاني منها بعض الأمهات، مع تصحيح المفاهيم المنتشرة بناءً على البراهين العلمية الحديثة.
رضاعة طبيعية وعظام قوية: ماذا يجب أن تعرفه كل أم:
الرضاعة الطبيعية لا تُسبب أمراض العظام، ولا تؤدي إلى “تفريغ الكالسيوم” بطريقة تضر بعظام الأم، إذا كانت الأم سليمة وتغذيتها متوازنة.
بل على العكس، الرضاعة الطبيعية تُعدّ مرحلة فسيولوجية طبيعية تمر بها الأم، يحدث خلالها تغيّر مؤقت في الكثافة العظمية، لكنه لا يضر بصحة العظام على المدى الطويل. والدراسات تشير إلى أن الجسم يعوض أي نقص بعد الفطام.
ومع ذلك، قد تشعر بعض الأمهات بآلام في العظام أو المفاصل خلال فترة الرضاعة، لكن هذه الآلام لا تنتج عن الرضاعة بحد ذاتها، وإنما من عوامل مصاحبة تحدث غالبًا لكل أمّ بعد الولادة.
ما الذي يحدث فعليًا للعظام أثناء الرضاعة؟
أثناء الرضاعة، يزداد احتياج الجسم إلى الكالسيوم لإنتاج الحليب؛ في حال لم تحصل الأم على كمية كافية من الكالسيوم من الغذاء، فإن الجسم لا “يسحب” الكالسيوم بطريقة مرضية، بل يقوم بتغيير مؤقت في كثافة العظام (خاصة عظام الورك والعمود الفقري).
هذه الحالة تُعرف بـ Bone Resorption during Lactation، وهي قابلة للعكس وتعود الكثافة العظمية للوضع الطبيعي خلال 6–12 شهر بعد الفطام.
هل الرضاعة تُضر العظام أم تحميها؟
على المدى القصير: قد تقل الكثافة العظمية مؤقتًا، وهذا طبيعي؛ وعلى المدى البعيد، الرضاعة لا تزيد خطر هشاشة العظام، بل تشير بعض الدراسات إلى أنها قد تحمي من هشاشة العظام بعد سن اليأس بسبب الترميم العظمي المعوّض بعد الفطام.
لماذا تشعر بعض الأمهات بآلام في العظام أو المفاصل؟
هناك عدة أسباب شائعة، وكلها قابلة للعلاج، وليس من بينها الرضاعة الطبيعية نفسها:
1. نقص الفيتامينات والمعادن بعد الولادة
خلال الحمل والولادة يزداد استهلاك الجسم لمخزون الأم من المغذيات، وقد ينخفض مستوى بعض الفيتامينات والمعادن المهمة:
• فيتامين د
• الكالسيوم
• فيتامين B12
• الحديد
• الفولات
نقص هذه العناصر قد يؤدي إلى:
• آلام في العظام
• إرهاق شديد
• شد عضلي
• ضعف الأوتار والمفاصل
• دوخة أو خمول
وهذه الأعراض ترتبط بنقص التغذية أو عدم أخذ مكملات ما بعد الولادة، وليس بالرضاعة.
ملاحظة مهمة:
الجسم يعوّض الكالسيوم الذي يذهب للحليب من طريق زيادة امتصاص الكالسيوم من الغذاء، وليس من “سحب” العظام كما يُشاع.
2. وضعيات الرضاعة الخاطئة:
واحدة من أكثر الأسباب شيوعًا لآلام الأم المرضعة.
الجلوس لساعات طويلة بطريقة غير صحيحة قد يسبب:
• ألم في الرقبة
• ألم الظهر العلوي والسفلي
• ألم الكتفين
• تنميل اليدين
• صداع عضلي
الأم غالبًا “تنحني” نحو الطفل بدلًا من رفع الطفل نحو صدرها، وهذا يضع ضغطًا كبيرًا على العمود الفقري والعضلات.
الحل:
• استخدام وسادة رضاعة
• الجلوس على كرسي مريح بظهر مستقيم
• دعم الذراعين والمرفقين
• رفع الطفل إلى مستوى الثدي، وليس العك.
3. الإرهاق وقلة النوم وتأثيرات ما بعد الولادة:
الأم الجديدة غالبًا تمرّ بنوم مُتقَطع، مجهود مستمر، توتر وقلق، وتغيير هرموني كبير. هذا كله يؤدي إلى ألم عام في الجسم، ضعف العضلات، آلام مفاصل، شعور “تكسر” في الجسم؛ ولا علاقة لهذه الأعراض بالرضاعة نفسها، بل بحالة ما بعد الولادة.
4. اضطرابات الغدة الدرقية بعد الولادة:
من 5% إلى 10% من الأمهات يصبن بما يسمى التهاب الغدة الدرقية بعد الولادة. النسبة تختلف بين المجتمعات، لكنها تتراوح بين 3% إلى 10%، وهو أكثر شيوعًا عند النساء ذوات الأجسام المضادة للغدة (anti-TPO antibodies).
ويسبب آلام مفاصل، إرهاق شديد، خمول، تساقط شعر، اضطراب مزاج، وعدم تحمّل البرد، وهو سبب مهم يتم تجاهله كثيرًا ويُحمَّل خطأً على الرضاعة.
5. ارتخاء الأربطة بسبب هرمون الريلاكسين:
هرمون Relaxin يزداد في الحمل ويستمر تأثيره بعد الولادة لفترة، مما يؤدي إلى ارتخاء الأربطة، ألم مفاصل الحوض، ألم أسفل الظهر، وعدم ثبات المفاصل. وهذا مؤقت ويزول تدريجيًا.
الخلاصة الذهبية:
الرضاعة الطبيعية لا تُسبب أمراضًا في العظام ولا تؤدي إلى “تكلّس” أو “تفريغ” الكالسيوم كما يشاع. من المهم توضيح أن الرضاعة نفسها ليست السبب المباشر، ولكن التغيرات الفسيولوجية المرتبطة بها (مثل فرز البرولاكتين، سحب الكالسيوم المؤقت، وتأثير النوم المتقطع) قد تساهم بشكل غير مباشر في الإرهاق أو تغير المزاج، خاصة إن ترافق مع سوء تغذية.
قد يحدث انخفاض مؤقت في كثافة العظم خلال الرضاعة، ولكنه يُعوَّض بعد الفطام ولا يؤدي لهشاشة عند الأمهات الأصحاء. أما آلام العظام والمفاصل التي تشعر بها بعض الأمهات، فغالبًا ما تعود لأسباب مصاحبة مثل:
• نقص فيتامين D أو الكالسيوم أو الحديد
• وضعيات رضاعة غير صحيحة
• الإرهاق، قلة النوم، التوتر
•اضطرابات هرمونية (مثل اضطراب الغدة الدرقية أو تأثير الريلاكسين)
كل هذه الأسباب يمكن تقييمها وعلاجها بسهولة. الأهم هو استمرار الرضاعة الطبيعية مع دعم الأم نفسيًا وتغذويًا.
نصائح عملية للأم المرضعة لتقليل الألم:
1. تناول مكملات الكالسيوم وفيتامين D خصوصًا عند نقص التعرض للشمس أو ضعف الغذاء.
2. تحسين وضعيات الرضاعة
واستخدام وسائل داعمة كالوسادات والكراسي المناسبة.
3. طلب تقييم طبي عند استمرار الألم
لاستبعاد نقص الفيتامينات، مشاكل الغدة الدرقية، أو غيرها.
4. عدم التوقف عن الرضاعة بسبب الألم، بل معالجة السبب وتحسين الظروف.
5. الراحة والنوم قدر الإمكان
ولو لساعات قليلة موزعة، لتقليل الإرهاق البدني.
رسالة طمأنة لكل أم:
إذا كنتِ تشعرين بآلام بعد الولادة، فلا تلومي الرضاعة. فهي مرحلة طبيعية، والجسم يُعيد توازنه تدريجيًا.
الرضاعة الطبيعية تعزز الترابط بينك وبين طفلك، وتمنح كليكما فوائد صحية طويلة الأمد.




