أقلام

الزواج السريع والطلاق الأسرع، حين تغلب العجلة على الحب

سامي آل مرزوق

في زمن لم يكن فيه الزواج قرارًا، عاطفيًّا عابرًا، بل تُسبقه التجربة والتروي، كانت البيوت تُبنى على المودة والرحمة، لا على الصورة، وكانت كلمة، نعم، تقال بثقة ومسؤولية، لا بدافع خوفٍ من الفوات أو لهفة العُمر.

اليوم تغير كل شيء، صار الزواج في كثير من الحالات مشروعًا مؤقتًا لا التزامًا دائمًا، وبات الطلاق أسرع من فترة الخطوبة نفسها.

في كل بيت قصة قصيرة انتهت قبل أن تبدأ، وفي كل حي حكاية فتاة خرجت من زواج لم يكتمل، أو شاب فقد ثقته في فكرة الاستقرار من أساسها.

لم يعُد الانفصال حدثًا نادرًا يستدعى التأمل، بل أصبح مشهدًا يوميًّا يُروى بلا خجل، وكأننا فقدنا حس الدهشة من انهيار العلاقات، وفقدنا معه احترامنا لفكرة، البيت، التي كانت تعنى في الماضي الأمان والاستمرار.

اللافت أن اغلب المطلقات لا يتجاوزن الثلاثين من العمر، أي في مرحلة النضج العاطفي الحقيقي، لا المراهقة، فماذا حدث؟ كيف تحول الزواج من مؤسسة صلبة إلى تجربة قصيرة العمر؟ ولماذا أصبحت العواطف تستهلك بسرعة البرق وتذبل في صمت؟

الجواب يبدأ من ثقافة عدم الصبر، التي غزت تفاصيل حياتنا. جيل اليوم يعيش على سرعة الأنترنت، يطلب طعامه بلمسة شاشة، وينتظر نتائج فورية في كل شيء، حتى في المشاعر. حين يواجه أول خلاف أول خيبة، يبحث عن خيار الخروج، لا، خيار الإصلاح.

لم نتعلم أن العلاقات تحتاج وقتًا كي تنضج، وصبرًا كي تُثمر، وأن الزواج ليس نزهة عاطفية بل مسؤولية مستمرة تتطلب، تنازلًا متبادلًا وتفهمًا عميقًا، الحب وحده لا يكفي، لأنه من دون صبر يتحول إلى نزوة، ومن دون وعي يصبح هشًّا لا يقوى على العيش.

وفي هذا السياق، لا يمكن إهمال مشكلة الزواجات المبكرة في عصرنا الحاضر، فالكثير من الشباب والشابات يدخلون الحياة الزوجية قبل اكتمال نضجهم العمري والفكري، وفي زمن سريع يجعلهم يتوقعون حلولًا فورية ومثالية لأي خلاف. ومع هذه العقلية يصبح الزواج هشًّا أمام أول اختبار.

يرى البعض إن كبر العمر في هذا الزمن، قد يكون أصلح للزواج، لأنه يمنح الشاب والفتاة قدرة أكبر على الاستقرار، ووعيًا أعمق في التعامل مع الخلاف، واستعداداً لتحمل مسؤولية الشراكة كاملة، لا بنصف نضج أو نصف فهم.

تغيب عن كثير من الأزواج اليوم، ثقافة الإعداد للحياة المشتركة، فالبنت تنشأ على صورٍ من الحياة الرومانسية الحالمة التي تبثها الدراما، والشاب يُلقن أن الزواج راحة وسلطة واستحقاق. لا أحد يتحدث عن التعب، عن إدارة الخلاف، عن تقبل العيوب، عن بناء الحلم مع شريكٍ آخر قد لا يُشبهنا في كل شيء، ثم نندهش حين ينهار الزواج بعد شهور، وكأن أحدًا لم يخبرهم أن الحب مسؤولية لا مشاعر فقط.

ولا يمكن تجاهل الدور السلبي الذي يلعبه المحيط الاجتماعي، ففي الماضي، كانت الأم تتدخل لتصلح، والأب يتحدث ليهدئ، أما اليوم فالأصوات المحيطة تدفع نحو الانفصال لا الحل. لا تتنازلي، ما تخليه يتحكم فيك، انفصل وارتاح. كلمات صغيرة ولكنها تزرع كبرياءً مريضًا وتوأد الحوار في مهده. وهكذا تتحول المشكلة البسيطة إلى أزمة كرامة، ويغدوا الطلاق أقرب الحلول لا أبعدها.

ثم تأتي المقارنة القاتلة التي تذيب القناعة وتخنق السعادة، شبكات التواصل صورت للناس حياة مثالية مزيفة، فبدأت كل امرأة تقارن واقعها بصورة امرأة أخرى على الشاشة، وكل رجل يقارن زوجته بفتاةٍ صُنعت تحت ضوء العدسات.

تلك المقارنات التي تبدأ بنظرة عابرة، تنتهي بانفصالٍ بارد لا سبب فيه سوى غياب الرضا. أصبحت بيوتنا تئن تحت ثقل المسؤولية.

أما التواصل، ذلك المفهوم البسيط الذي بُنيت عليه أجمل العلاقات في الماضي، فقد أصبح من أندر المهارات اليوم، يعيش الزوجان في بيتٍ واحد، ولكن بينهما جدران من الصمت. لا حوار، لا إنصات، لا محاولة للفهم، يتحدثان فقط عند الغضب، فيتحول الكلام إلى سلاح لا جسر، وتتحول الحياة إلى معركةٍ يومية بلا فائز.

ولأننا لم نُعد أبنائنا للحياة الزوجية، فهم يدخلونها بأحلامٍ كبيرة ووعي صغير، لم نُعلم الفتاة أن الزواج ليس بطولة رومانسية، بل رحلة تحتاج حلمًا واحتواء، ولم نُعلم الشاب أن القيادة الحقيقية تبدأ بالرحمة لا بالسلطة.

جيلنا تعلم من آبائه أن الزواج صبر. أما الجيل الجديد فتعلم أن الطلاق بداية جديدة، تُسمى الانسحاب حرية، وتعد كثيرًا من الحرية المزعومة، ماهي إلا هروب من المسؤولية لم نفهمها بعد.

هكذا تتكرر القصص المؤلمة، زوجان افترقا لأن أحدهما صمت يومًا أكثر من للازم، أو لأن المقارنة أفسدت الرضا، أو لأن كلمة عابرة من صديق جعلت الخلاف عاصفة. وبين تلك التفاصيل الصغيرة تتساقط البيوت، وتبقى الندوب في النفوسٍ شابة لم تعلم بعد كيف تُداوي نفسها.

إن أخطر ما في هذه الظاهرة ليس ارتفاع نسب الطلاق، بل تبلد الإحساس تجاهها.

لم يعد الطلاق يُحزننا كما كان، ولا الانفصال يُخيفنا كما كان. تحول من مأساةٍ إنسانية إلى، خيار طبيعي، يُحتفى به أحيانًا، ولكن ما لا يقال هو أن خلف هذا الخيار قلوبًا مكسورة، وأطفالًا تائهين، وذكريات لا تندمل.

إن إعادة بناء مفهوم الزواج لا تبدأ من القوانين، بل من الوعي. نحن بحاجة إلى أن نعلم أبنائنا أن الحب ليس وعدًا بالسعادة بل التزمًا بالمسؤولية، وأن الصبر لا يلغي الكرامة بل يحميها.

فالعلاقات التي تُبنى على الإدراك لا تنهار بسهولة، والبيوت التي تؤسس على التسامح تعيش رغم العواصف. ليست الحرية في أن نرحل متى شئنا، بل في أن نختار البقاء حين يكون الرحيل أسهل.

وإن الزواج ليس قيدًا كما يتوهم البعض بل مرآة للنضج، امتحان لقدرتنا على الفهم. وإن لم نُعد النظر في الطريقة التي نُقدم بها مفهوم الزواج لأبنائنا، فلن نلوم المستقبل حين يكرر أخطاءنا بوتيرة أسرع. ويبقى السؤال الذي يطرق الضمير الجمعي. هل فقدنا القدرة على البقاء. أم أننا لم نتعلم بعد كيف نُحب بوعيٍ يحميه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى