أقلام

الماكدونالدزية: عندما يصبح افتتاح مطعم برغر حدثًا يغيّر حياة الملايين

غسان بوخمسين

في 31 يناير 1990، اصطفّ مئات الآلاف من المواطنين السوفييت أمام أول فرع ماكدونالدز في موسكو، في طابور امتد لكيلومترات تحت الثلج. افتتاح المطعم كان يمثل إعلانًا سياسيًا مدوّيًا: الاتحاد السوفييتي ينفتح على الغرب، والشيوعية تتراجع أمام رأسمالية المستهلك. بعد عشر سنوات، تكرر المشهد في بكين وعواصم أخرى، معلنًا بداية حقبة العولمة والنظام العالمي الجديد. كل مرة كان افتتاح فرع ل«الأقواس الذهبية» يحمل رسالة أكبر من البرغر نفسه: دخول المدينة إلى الاقتصاد العالمي، ظهور طبقة شبابية جديدة ترتدي الجينز وتحمل كوب الكولا، وفي الوقت نفسه بداية تلاشي الأكل المنزلي، وتآكل الأسواق التقليدية، وصعود ثقافة السمنة والنفايات البلاستيكية. باختصار: حدث سياسي-اقتصادي-اجتماعي-معيشي كامل في وجبة واحدة سعرها دولارين.

من هنا انطلق عالم الاجتماع الأمريكي جورج ريتزر ليصيغ مصطلح «الماكدونالدزية» في كتابه الشهير عام 1993، محذرًا من أن ما نراه في مطعم الوجبات السريعة ليس مجرد طريقة لبيع الطعام، بل أنموذج يعاد به تنظيم المجتمع بأكمله.

سمات الماكدونالدزية الأربع التي صارت دستور العصر

1. الكفاءة: أقل وقت، أكثر إنتاج.

2. التكميم: كل شيء يُقاس بالأرقام (عدد الوجبات، عدد الطلاب الناجحين، عدد المرضى المعالجين).

3. التنبؤية: نفس التجربة في كل مكان، من بكين إلى لوس أنجلوس.

4. التحكم: استبدال الإنسان بالآلة أو بالتعليمات المكتوبة كلما أمكن.

ومن المفارقات المذهلة أن الشركة نفسها أسست عام 1961 «جامعة هامبورغر» (Hamburger University) في إلينوي، ثم فروعًا لها في شنغهاي ولندن وساو باولو. تخرّج منها حتى اليوم أكثر من 275 ألف مدير فرع حول العالم، يتعلمون فيها ليس فقط كيف يُقلى البطاطس في 165 ثانية، بل كيف يُدار البشر وفق المبادئ الأربعة نفسها. جامعة حقيقية بشهادات معتمدة، ولكنها تُدرّس علم «إدارة البشر والموارد» بطريقة صارمة ولكن منظمة ومريحة للمالك.

مبدئيات المفهوم

• التعليم تحول إلى خط إنتاج شهادات: اختبارات موحدة، مناهج جاهزة، معلمون يُقيَّمون بعدد الطلاب لا بقدرتهم على التفكير.

• الطب صار «مصنع مرضى»: طبيب واحد يرى 30-50 حالة يومياً، 8–12 دقيقة لكل مريض، وصفة جاهزة، لا وقت للسؤال عن أسباب الأعراض.

• الإعلام صار «مصنع محتوى»: نفس قالب الأفلام، نفس الأغاني، نفس النكات، لأن الصيغة الناجحة تُكرر حتى الغثيان.

• حتى الحب صار ماكدونالدزيًّا: ملف شخصي موحد، خوارزمية تقرر من «يُناسبك».

السلبيات التي ندفع ثمنها يوميًّا

• تلاشي الجودة الحقيقية لصالح الكمية.

• اغتراب شامل: نشعر أننا أرقام في جدول عملاق.

• موت التنوع الثقافي: مدن العالم صارت متشابهة، وأكلاتنا ومدارسنا وأحلامنا وملابسنا صارت نسخًا من بعضها.

• وباء السمنة والأمراض المزمنة: أكثر من 2.5 مليار إنسان يعانون اليوم من وزن زائد، معظمه مرتبط بنمط الوجبات السريعة والحياة السريعة.

• تلوث بيئي هائل: ملايين الأطنان من البلاستيك كل عام من أكواب وأغلفة «وجبة واحدة».

• هشاشة النظام: أي خلل في سلسلة التوريد يشل دولاً بأكملها، كما رأينا في أزمة كورونا.

النقد: قفص حديدي مطلي بألوان مبهجة.

الأخطر أننا صرنا نحب قفصنا. نعتقد أننا نختار السرعة والراحة والسعر المنخفض، ولكننا في الحقيقة نُختار. الخوارزمية تقرر ما نراه، البروتوكول يقرر كم من الوقت نستحق، والمؤشر الرقمي يقرر إن كنا «ناجحين» أم لا. قفص حديدي، ولكنه مزين بموسيقى مرحة وابتسامة موظف مدرّب في جامعة هامبورغر.

البدائل موجودة ولكنها قليلة ونادرة

ومع ذلك، هناك انتفاضة صامتة تحدث الآن في كل مكان:

• حركة «الطعام البطيء» التي بدأت كرد فعل على افتتاح ماكدونالدز في روما 1986 وأصبحت اليوم في 160 دولة.

• آلاف المدارس البديلة (مونتيسوري، والدورف، التعلم الذاتي).

• أسواق المزارعين الأسبوعية التي تعيد صلتنا بالأرض.

• أطباء يفتحون عيادات «بطيئة» تعطي ساعة لكل مريض.

شباب يغلقون هواتفهم ويذهبون لطبخ وجبتهم في بيوتهم.

في الختام، الماكدونالدزية أعطتنا سرعة ورخصًا وانضباطًا، ولكنها تأخذ منا الروح والتنوع والصحة والمعنى. المطلوب ليس هدمها، بل في ترويضها: نأخذ منها الكفاءة ونرفض توحيدها، نحتفظ بسرعتها عند الضرورة ونستعيد بطأنا عندما نريد أن نعيش حقًا.

لأن الحياة، في النهاية، ليست وجبة سريعة تُؤكل وقوفًا في دقيقتين بين اجتماعين.

الحياة طبق يُحضّر على نار هادئة، يحمل رائحة الذكريات، ويُؤكل مع أناس نحبهم، ويترك فينا طعمًا يدوم مدى العمر.

والخيار هو دائمًا، بأيدينا:

هل نريد أن نكون زبائن في مطعم عملاق، أم صانعي حياتنا بأيدينا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى