
زاهر العبدالله
لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي كـ”تيك توك” و”سناب شات” و”إنستغرام” مجرد منصات للترفيه أو التعبير الشخصي، بل تحولت اليوم إلى بيئة تصنع قيمًا جديدة، وتعيد تشكيل العلاقات الأسرية، وتؤثر في صورة الذات، خصوصًا لدى فئة الشباب والبنات. وبين مَن يعدّها السبب المباشر في تفكك البيوت، ومَن يراها مجرد وسيلة تكشف ما هو موجود في الداخل، تبرز ضرورة العودة إلى الميزان القرآني وما علّمنا أهل البيت عليهم السلام من بصيرة في فهم حقيقة التأثير.
الشيطان من أين يبدأ النفوذ؟
يشير القرآن إلى أصل الانحراف قبل أدواته، فيقول تعالى:
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (الأنعام: 142).
هذه «الخطوات» تتجلى اليوم في بريق المقارنات، وتضخيم الأنا، والسعي المحموم خلف الإعجاب والمديح. وهي ذاتها التي وصفها القرآن بقوله:
﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ (النحل: 63).
فالشيطان يزين ولا يجبر، يلمّع ولا يخلق قرارًا، يضخم ولا يغيّر طبيعة الإنسان الفطرية. ولهذا قال تعالى حاسمًا:
﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ (الحجر: 42).
إذا كان الشيطان نفسه عاجزًا عن قلب قلب عبدٍ مؤمن، فهل تملك منصة رقمية — مهما علا ضجيجها — أن تهدم بيتًا محصّنًا بذكر الله؟
البيوت التي تتغير… هل تغيّرها السوشيال ميديا؟
يُطرح سؤال ملحّ: لماذا نرى بيوتًا تتوتر، وبناتٍ تتبدل أفكارهن، وزوجاتٍ تتقلب مشاعرهن، وأُسرًا تشتعل فيها الغيرة والمقارنات؟
الجواب يكشفه النبي والأئمة عليهم السلام بوضوح، ففي الحديث الشريف:
«ما مِن مؤمنٍ إلّا ولقلبه في صدره أذنان: أذنٌ ينفث فيها الملك، وأذنٌ ينفث فيها الوسواس» (مصدر 1).
ويقول الإمام الصادق (ع):
«على إحداهما ملكٌ مرشد، وعلى الأخرى شيطانٌ مفتن… يأمره أحدهما ويزجره الآخر» (مصدر 2).
المعنى أن السوشيال ميديا لا تصنع صفاتٍ جديدة في النفوس، بل تستثمر ما هو موجود أصلًا: الغيرة، الفراغ، حب الظهور، ضعف الهوية، الاضطراب الداخلي… فتعمل على تضخيمها لا خلقها.
النفث الجديد… من الصوت إلى “الفيديو القصير”
يحذّر الإمام علي (ع) بقوله:
«احذروا عدوًّا نفذ في الصدور خفيًّا، ونفث في الآذان نجيًّا» (مصدر 3).
النفث اليوم ليس همسًا، بل «ستوري»، «فلتر»، «ترند»، «رقصة»، «مشهد تمثيلي»، يدخل إلى القلب قبل العين، ويحرّك المشاعر قبل أن يحرّك الفكر. ولكنه لا يملك قوة القهر، بل يستغل القابلية النفسية.
ولهذا قال الإمام الصادق (ع) قاعدة ذهبية:
«الشَّيْطَانُ أَعْجَزُ مِنْ ذَلِكَ» (مصدر 4).
أعجز من أن ينتزع حبًا، أو يهدم بيتًا قائمًا على الثقة، أو يغيّر قلبًا ثابتًا.
لو كان يقدر، لما بقي بيت واحد في زمن يتعرض فيه الناس لآلاف الرسائل يوميًا.
صناعة الوهم… أكبر من كل تقنية
يصف القرآن آلية الانهيار الداخلي بقوله:
﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ… وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ (النساء: 120).
الغرور هنا = تضخيم الوهم.
والسوشيال ميديا اليوم هي أكبر مصنع للوهم:
– ابنة تقارن أمها بالمؤثرات.
– زوجة تقارن زوجها بالصور المعدّلة.
– شاب يقارن حياته بسيناريوهات زائفة.
– فرد يشعر بالنقص لأنه يقارن حقيقته بخيال الآخرين.
فالانفجار العاطفي لا يصنعه الهاتف، بل الفراغ الداخلي.
الاضطراب النفسي… لا “سحر إلكتروني”
في دعاء الإمام السجاد (ع) وصفٌ بديع للآلية الحقيقية للاضطراب:
«إلهي… شيطانٌ يغويني، قد ملأ بالوسواس صدري، وأحاطت هواجسه بقلبي… يزين لي حب الدنيا…» (مصدر 5).
ليس في الدعاء أي إشارة لأدوات خارجية، بل يشير إلى أن الخطر في القابلية النفسية لا في المنصة الرقمية.
وهذا ينسجم مع قوله تعالى:
﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ﴾ (الإسراء: 64).
الاستفزاز = تحريك المشاعر وتشويشها، لا فرض السيطرة.
الحل… هل يكمن في إغلاق الهاتف؟
إغلاق الهاتف قد يخفف الضوضاء، لكنه لا يعالج أصل المشكلة.
العلاج يبدأ حيث يشير القرآن:
﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا﴾ (الأعراف: 201).
التذكر هنا يعني:
– استعادة العلاقة بالله.
– إعادة التوازن الروحي.
– تعظيم دور الأسرة.
– ضبط استخدام التقنية.
– إدراك أن السوشيال ميديا تكشف الداخل ولا تصنعه.
أما مطاردة الوهم، واتهام الناس بالحسد، أو مقارنة النفس بالمؤثرين… فهو من تزيين الشيطان، لا من الحقيقة.
خلاصة يقظة العقل
البيت الذي يثبت على:
– الصلاة،
– الحوار،
– الاحترام،
– الثقة،
– القرب من الله،
هو البيت الذي لا تهدمه السوشيال ميديا، ولا تنال منه مقارنات المؤثرين.
أما البيت الذي يبتعد عن الله… فيصبح مجرد مادة خام لوسوسة الشيطان، مهما أغلق أهله هواتفهم.
ولهذا قال تعالى:
﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ (النساء: 76).
الضعف هنا ليس ضعفًا تقنيًا… بل ضعف القدرة على من يملك وعيًا وقلوبًا حيّة.
—
المصادر
1. تفسير نور الثقلين – الحويزي، ج5، ص725
2. ميزان الحكمة – الريشهري، ج3، ص2605
3. ميزان الحكمة – الريشهري، ج2، ص1451
4. بحار الأنوار – المجلسي، ج60، ص21
5. ميزان الحكمة – الريشهري، ج2، ص1451




