أقلام

لماذا لُقّبت فاطمة بـ «أمّ أبيها»

د. حجي الزويد

«فاطمة أمّ أبيها»

حقيقة وجودية وليس لقبًا إنشائيًا

ليست عبارة «فاطمة أمّ أبيها» مجرّد لقبٍ عاطفيٍ أطلقه النبي ﷺ بدافع الحنان الأبوي، ولا وصفًا أدبيًا يُزيَّن به تاريخ السيدة الزهراء عليها السلام، بل هي حقيقة وجودية عميقة تكشف عن طبيعة العلاقة الفريدة بين النبي وابنته، وعن مقامٍ روحيٍّ استثنائيٍّ لم تبلغه امرأة في تاريخ الإنسانية.

فالأمومة هنا ليست أمومة الجسد، بل أمومة الروح والرسالة والاحتواء.

هي أمومة من نوعٍ آخر؛ أمومة تقوم مقام السند حين يُخذل الأب، ومقام السكينة حين تُثقل الرسالة، ومقام الرعاية حين تتكاثر الجراح

«أمّ أبيها»

عبارةٌ صغيرة، ولكنّها بحرٌ من الدلالات الروحية والعاطفية والعقائدية، لا تُقال إلا في مقامٍ سامٍ اجتمعت فيه أنوار الرحمة، وسموّ الروح، وكمال المحبّة بين الأب وبنته، حتى صارت البنتُ في مكان الأم رعايةً وحنانًا ومقامًا.

لماذا لُقّبت فاطمة بـ «أمّ أبيها»؟

1. لأنها كانت الحضن الذي يضمّ قلب النبي ﷺ؛

منذ ولادتها، كانت فاطمة عليها السلام أقربَ أولاده إليه، وكلما اشتدّ عليه أذى قريش عاد إلى بيته منكسرًا، فما إن تراه فاطمة حتى تقوم إليه، تمسح الدم عن جبينه، وتزيل التراب عن كتفيه، فيبتسم ويطمئن.

كانت طفلة، ولكن قلبها كان قلبَ أمّ، يحتوي آلام أبيها ويخفّف عنه، فصارت في مقام الأمّ بالنسبة له.

2. لأنها شاركته همَّ الرسالة:

لم تكن فاطمة مجرد ابنة، بل كانت سندًا معنويًا وروحيًا للنبي؛ فقد وقفت معه في أصعب اللحظات؛ في حصار شعب أبي طالب، و بعد وفاة أمّه وجدّه وعمه وزوجته خديجة، وفي تكذيب الناس وإيذائهم له.

كانت تُشعره بأنه ليس وحده، ولذلك قال عنها:

«فاطمة بضعةٌ مني، يؤذيني ما آذاها، ويرضيني ما أرضاها»

هذه المشاركة الوجدانية لا تكون إلا بين أبٍ وأمّ، فكانت فاطمة «أمًّا» في الروح والرسالة.

3. لأنها ورثت روح خديجة الكبرى:

بعد وفاة أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام، افتقد النبي السند الأقرب والأحنّ؛ لكنّ الله جعل في فاطمة نور أمها، فكانت تمثل الامتداد الخَلقِيّ والخُلُقيّ لخديجة في رحمته، ورقتها، وحكمتها، وعمق بصيرتها، وحنانها للنبي ﷺ، فكانت لتعويض هذا الفراغ العظيم الأم الثانية للنبي ﷺ.

4. لأنها كانت موضع راحته وابتسامته:

كان رسول الله ﷺ إذا دخلت فاطمة يقوم لها ويقبّل يدها ويجلسها مكانه، وهذا إكرامٌ لا يفعله إلا الأب مع أمّه أو أعظم نساء بيته. وكان يقول:

«إنما هي روحي التي بين جنبيّ»

ومَن كانت روحُه أمًّا له، كيف لا تكون «أمَّ أبيها»؟

5. لأنها كانت ملجأ النبي وحرز أسراره:

كان يثق بها ثقةً مطلقة، ويُسرّ لها ما لا يبوح به لغيرها.

وحين عادت من خطبة حجة الوداع، أسرّ لها بسرّين متتالين: الأول فأبكَاها، والثاني فأضحكها، مما يدل على أنها، الأقرب إلى قلبه، والأكثر أهلًا لتحمّل أسراره، والأشد أمانًا على الرسالة بعده.

هذه الثقة العالية هي ثقةُ ابنٍ بأمّه.

المعنى الروحي للَّقب:

هذا اللقب ليس مبالغة عاطفية؛ بل سِمةُ مقام: هو تعبير عن شدّة الحنان الذي كانت تغمر به النبي، وعن حكمةٍ كانت تفوق عمرها، وعن دورٍ ربانيّ جعلها الإنسانة الأقرب لمحمدٍ في رسالته ووجعه وفرحه.

هي ليست أمًا له بالجسد، ولكنها أمٌّ لروحه، لقلبه، لرسالته.

فاطمة… أمّ أبيها في الأمة:

كما كانت أمًا لأبيها، كانت أمًا للمسلمين برحمتها، وبعفّتها، وبعلمها، وبدفاعها عن الحق، وبموقفها يوم خطبة فدك، بتربيتها للأئمة الذين حفظوا الدين، فهي الأمّ الروحية للأمة، التي لا يزال نورها يمتدّ عبر الأزمنة.

الخاتمة:

«فاطمة أمّ أبيها» ليس لقبًا تُزيّن به السير، بل هو حقيقة وجودية تجسّد قمّة العلاقة بين النبي وابنته، وعمق الروح الفاطمية، ومقامها الذي لا يبلغه أحدٌ من نساء العالمين.

فحقّ لها أن تكون أمّ أبيها، وأمّ الأئمة، وأمّ الرسالة بعد محمدٍ المصطفى ﷺ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى