
عماد آل عبيدان
كل شيء كان عاديًّا.
أعني عاديًّا بالمعايير التي اعتادها الناس في بلدات وحارات تعرف بعضها عن ظهر قلب وتشبه بعضها كتشابه أصوات الحمام في بيت ضاق بألف حكاية.
أبو هشام رجل في أواخر الخمسين من عمره موظف حكومي سابق يشرب شايه بنفس الإيقاع الذي يحرك به المسبحة بين أصابعه.
لا فرق بينه وبين نافذة بيتهم القديمة فكلاهما مفتوح منذ سنين ولكن لا أحد يلتفت إليهما إلا حين يحدث شيء.
في صباح عادي ليوم آخر بدأ كل شيء عاديًّا.
استيقظ أبو هشام على صوت حوار بين زوجته وابنته الكبرى:
– «قلت لك لا تلمسين أغراضي!»
– «أنا ما لمست شي… اسألي سارة!»
– «سارة نايمة وبصراحة أنتي تحسين إن الغرفة كلها حقك!»
– «وإنتي تحسين إن الدنيا كلها تمشي على كيفك!»
غسل وجهه دون أن يطالع المرايا فصار وجهه غريبًا عليه كما هو عليه الحال كل يوم.
مضغ لقيمات فطوره ببرود وحمد الله كعادته القديمة ثم خرج إلى حوش البيت وبدأ يسقي الزرع الذي لم يُزهر منذ ثلاث سنين.
الزرع لم يمت ولكنه – كصاحبه – اعتاد ألّا يُثمر.
ثم سمع صوتًا مألوفًا من الجدار المجاور:
– «هلا أبو هشام! ما شفناك أمس في المجلس؟»
رد وهو يُقلّب التراب المتيبس في حوض الورد:
– «ما فيه شي جديد يا بو ناصر… الكلام نفسه والشكوى نفس الوجع ما تغيّر شي.»
أراد أن يُغيّر الموضوع فسأل:
– «ولدك جاسم… توظف؟»
رد جاره بحسرة:
– «قدّم في كل مكان وما حصل شي… قالوا لازم واسطة!»
تنهد أبو هشام لا حزنًا إنما عادة اعتادها.
عاد للداخل فوجد المكيف لا يعمل.
نادى:
– «يا بنات! المكيف خربان!»
ردت زوجته من المطبخ:
– «من يوم خرب قبل ثلاثة أسابيع وأنت تقول بكرة باصلحه!»
غضب قليلًا ثم سكت كثيرًا يفكر.
ذهب ليُصلّح شيئًا… أو ليُقنع نفسه أنه يحاول.
أمسك بسلك قديم وحاول لفّه حول ماسورة ماء تسرّب فجرح السلك إصبعه.
نزف، شتم، ثم جلس على الكرسي البلاستيكي المهتز محدّقًا في الأرض كأن فيها جوابًا.
دخل ابنه الصغير فجأة وقال بصوت بريء:
– «بابا جبت ورقة من المدرسة… يقولون لازم تدفع 350 للأنشطة!»
أغمض عينيه للحظة.
ثم… لم يفتحهما تمامًا.
كأن الزمن توقف عند هذه «الورقة».
الورقة ليست ثقيلة.
ولا 350 ريالًا مبلغًا تخر لأجله الجبال.
ولكنها – ولسبب لم يفهمه ابنه ولا زوجته – كانت القشّة.
وقف أبو هشام ببطء ودخل الغرفة ولبس ثوبه وغترته وعقاله وقال بهدوء غير معهود:
– «بطلع شوي… لا تنتظروني على الغدا.»
مشى في الشارع كأن عليه دينًا لم يدفعه.
وقف عند دكان أبو مرزوق وأخذ بيبسي بارد.
ابتسم لأول مرة منذ أسابيع وهو يسمع صوت تشتشة الفقاعات.
جلس على كرسي حديدي عند باب البقالة وبدأ يُحدّث نفسه بصوت خافت:
«كلهم يقولون لي: اصبر… اصبر… اصبر.
وأنا طول عمري أصبر على الكهربا إذا انقطعت، وعلى البقالة إذا رفعت الأسعار، وعلى الشارع إذا طفحت مجاريه، وعلى المدير إذا ما احترم شيباتي، وعلى الحياة إذا ما فهمتني.
بس ولا واحد قال لي: متى وقتك أنت؟
متى تصرخ؟
متى تقدر تقول: خلاص… واجد علي؟»
وقف أبو مرزوق من الداخل ونظر إليه ثم أخرج له غرشة ماء وقال بابتسامة:
– «برّد على قلبك يا أبو هشام… تراها ما تسوى.»
أخذها وشربها كأنها تمسح ما علق في قلبه من سنوات.
ثم ضحك… وضحك بصوت عال حتى استغرب أبو مرزوق وتوجس.
لم يضحك لأن شيئًا طريفًا حدث
ولكن لأنه أدرك أن كل هذا الضغط… كل هذا الصبر…
لا يراه ولا يحسه أحد غيره.
وأن الورقة التي أعطاها له ابنه… لم تكن السبب.
كانت فقط النقطة التي غلت فيها روحه.
تمامًا كما تفور القهوة إذا تُركت طويلًا على نار هادئة.
عاد للبيت ليلًا.
دخل فوجد الجميع صامتين.
قال وهو يضع مفاتيحه بهدوء:
– «صلّحت المكيف… وأعطيت المدرسة المبلغ.»
سكت لحظة ثم أضاف بابتسامة ساخرة:
– «بس لا أحد يعطيني ورقة زيادة… لأني يمكن أذوب مثل قالب ثلج أو أفور مثل قدر ضغط!»
ضحك الجميع.
ضحكة حقيقية.
ضحكة فهموا فيها أن أبا هشام
كان واقفًا كل هذا العمر على حافة
وكان لا بد من ورقة…
حتى يفور.
القشّة لم تكن السبب كونه التاريخ الطويل من الحِمل.
وقد تكون تلك اللحظة البسيطة
أو الكلمة العادية بحسن نية
أو الطلب الساذج…
هي الشرارة التي تُفجّر ما تراكم في الداخل
بعد صمت طويل وصبر أثقل من الطاقة.
نقطة الغليان ليست جنونًا…
هي فقط أوّل صوت حقيقي
يصدره «السكوت»
بعد طول احتمال.




