أقلام

تجلّيات الدعاء الرجبي: قراءة روحية ومعرفية في دعاء الإمام الصادق (عليه السلام)

د. حجي الزويد

مقدّمة

يُعدّ الدعاء الرجبي المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) من أعمق الأدعية الواردة في مدرسة أهل البيت، لا من حيث ألفاظه فحسب، بل من حيث بنيته الروحية، ومقاصده المعرفية، وتجلياته التربوية. فهو دعاء لا يطلب حاجة جزئية، بل يؤسّس لعلاقة شاملة بين العبد وربّه، في شهر يُعدّ مدخلًا روحيًا لتهيئة القلب قبل مواسم القرب الكبرى.

أولًا: تجلّي الرجاء المطلق

يفتتح الدعاء بنداء جامع يختزل الموقف الإيماني كلّه، في قوله:

«يا مَن أرجوهُ لكلّ خير، وآمَنُ سَخَطَهُ عند كلّ شرّ».

ويتجلّى الرجاء هنا بوصفه مقامًا إيمانيًا راسخًا، لا مجرّد حالة شعورية عابرة؛ إذ يرى العبد ربَّه مصدرًا لكلّ خير، وملجأً عند كلّ خوف، وأمانًا حتى في مواضع التقصير والضعف. فالرجاء في هذا المقام لا ينبني على حساب الاستحقاق، ولا يتقوّم بميزان العمل وحده، بل يقوم على معرفة سعة الرحمة الإلهية، وإدراك شمولها وسبقها للغضب.

وعليه، فإنّ هذا النداء يؤسّس لعلاقة دعائية قائمة على الثقة المطلقة بالله، لا على التردّد أو المشروطيّة، ويحرّر الرجاء من أن يتحوّل إلى أمنٍ كاذب، كما يحفظه من الانحدار إلى يأسٍ مقنِط، ليبقى مقامًا جامعًا بين الوعي والمسؤولية وحسن الظنّ بالله.

ثانيًا: تجلّي الكرم الإلهي غير المشروط

يتكرر في الدعاء توصيف العطاء الإلهي بصور متصاعدة:

«يا مَن يُعطي الكثير بالقليل… يا مَن يُعطي من سأله… يا مَن يُعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّنًا منه ورحمة»

وهذا التدرّج يكشف تصوّرًا توحيديًا خالصًا للكرم الإلهي، فهو عطاء لا تحكمه معادلة الاستحقاق، ولا يتوقّف على معرفة العبد أو سؤاله، بل ينبع من الرحمة الذاتية لله.

وهو تجلٍّ عميق لتربية الإنسان على حسن الظن بالله، لا على الحساب الجاف مع الله.

ثالثًا: تجلّي شمولية الطلب

يبلغ الدعاء ذروته في قوله:

«أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة، واصرف عني بمسألتي إياك جميع شرّ الدنيا وشرّ الآخرة».

ويكشف هذا المقطع عن شمولية الرؤية الإيمانية في مقام الدعاء؛ إذ لا يُنظر إلى الدنيا والآخرة بوصفهما مجالين متعارضين أو منفصلين، بل بوصفهما امتدادين لمسار وجودي واحد. كما لا يُختزل الدعاء في طلبٍ جزئي أو حاجة عارضة، بل يتّجه إلى طلب الخير في كليّته، ودفع الشر في جميع مراتبه وصوره.

ومن خلال هذا الاتساع في الطلب، يُربَّى الداعي على تجاوز التعلّق بتفاصيل الطريق، والانشغال بجزئيات المصالح، ليتحوّل همّه إلى سلامة المسار الوجودي برمّته، بحيث تُفَوَّض التفاصيل إلى الحكمة الإلهية، ويبقى المقصد هو القرب والنجاة.

رابعًا: تجلّي اليقين بعدم نقص العطاء

يحمل قوله:

«فإنّه غير منقوص ما أعطيت»

بعدًا عقديًا بالغ العمق؛ إذ يرسّخ في وعي الداعي حقيقةً توحيدية مفادها أنّ العطاء الإلهي لا يُقاس بموازين النقص والزيادة، ولا يترتّب عليه استهلاك أو محدودية في الخزائن الإلهية. فالكثرة في السؤال لا تُثقل، والعظمة في الطلب لا تُنافي الكرم، لأن الفضل الإلهي صادر عن غنى ذاتي مطلق.

ومن ثمّ، فإنّ هذا المقطع لا يؤدّي وظيفة الطلب فحسب، بل يقوم بدور تصحيح التصوّر الإنساني عن الله؛ إذ ينقل الداعي من قياس العطاء الإلهي على العطاء البشري المحدود، إلى الإيمان بعطاء يتجاوز منطق المقابلة والاستحقاق، ويؤسّس لعلاقة تقوم على الثقة المطلقة بسعة الرحمة وتمام الجود.

خامسًا: تجلّي الأدب في الطلب والافتقار

في قوله:

«وزِدني من فضلك يا كريم»

ينتقل الداعي من مقام الطلب إلى مقام الافتقار المحبّ؛ فهو لا يطالب، بل يستزيد، ولا يحتجّ، بل يتوسّل بالكرم، وهذا من أعلى مراتب الأدب مع الله.

سادسًا: تجلّي الجسد في العبادة

إنّ نقل الراوي لحال الإمام (عليه السلام) بقوله:

«مدّ يده اليسرى فقبض على لحيته، وهو يلوذ بسبّابته اليمنى»

لا يأتي على سبيل الوصف التاريخي المجرد، بل يكشف عن اندماج الباطن بالظاهر في مقام الدعاء.

فحركة الجسد هنا ليست حركة آلية، بل ترجمة حسّية لحال القلب؛ قبض اللحية تعبير عن الانكسار والتذلّل، ورفع السبّابة إشارة توحيدية تختصر المقصد كلّه، والدمعة – وإن لم تُذكر صراحة – حاضرة في سياق الخشوع بوصفها امتدادًا وجدانيًا للدعاء.

وعليه، فإنّ الخشوع في هذا المقام لا يُختزل في اللفظ أو المعنى الذهني، بل يتجلّى حالة وجودية شاملة، تتوحّد فيها الجوارح مع القلب، ويتحوّل فيها الجسد من أداة إلى شاهد على صدق الحضور بين يدي الله.

سابعًا: تجلّي الخاتمة التوحيدية

ختم الدعاء بقوله:

«يا ذا الجلال والإكرام… حرّم شيبتي على النار»

يحمل هذا المقطع خلاصة التجربة الإيمانية; اعتراف بالضعف الإنساني، واستنجاد بتاريخ العمر لا بعمله، وتوسّل بصفات الجلال والجود والمنّ.

وهو انتقال من طلب الخير إلى طلب النجاة، ومن كثرة المطالب إلى غاية واحدة: السلامة من النار.

خاتمة:

إنّ تجلّيات الدعاء الرجبي لا تتوقّف عند كونه نصًّا تعبديًا يُتلى في شهر رجب، بل تتجاوز ذلك إلى كونه منهجًا متكاملًا في التربية الروحية وبناء الوعي الإيماني؛ منهجًا يربّي الرجاء من غير غرور، ويؤسّس الطلب من غير أنانية، ويمنح العبادة روحها بعيدًا عن الجفاف والآلية.

فهذا الدعاء لا يقتصر على الاستجابة للحاجات، بل يعيد ترتيب صورة الله في قلب العبد، ويصحّح علاقته به على أساس السعة والكرم والرحمة، مهيّئًا النفس للانتقال من موسم الغفلة إلى موسم القرب، ومن الانشغال بتفاصيل المطالب إلى استحضار سؤال المصير والنجاة.

ومن هنا، لو لم يكن في تراث أدعية أهل البيت (عليهم السلام) سوى هذا الدعاء، لكان كافيًا في تهذيب القلب، وإيقاظ الروح، وإعادة توجيه الإنسان نحو غايته الوجودية، بما يجعله نموذجًا خالدًا للدعاء الذي يجمع بين عمق المعرفة، وصدق العبودية، وجمال القرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى