
السيد فاضل آل درويش
ورد عن الإمام الباقر (ع): (من طلب الدنيا استعفافًا عن الناس، وسعيًا على أهله وتعطّفا على جاره، لقي الله عز وجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر)(وسائل الشيعة ج ١٧ ص ٢١).
نحتاج إلى ضابطة معيارية تقيم علاقة وازنة بين الإنسان والحياة الدنيا بما يتناسب مع حقيقة مكانته ودوره الوظيفي فمنطق الحكمة والإدراك الناضج الرشيد ينبيء عن علاقة ليست بعبثية بل هي خاضعة لمعيار العمل المثابر والمتناسق مع كرامته وسعيه نحو التكامل، وهذا يعني أن عين الجهد والاهتمام واغتنام الأوقات تركّز وتنصب على القيم الأخلاقية والتربوية، إذ هي الصانعة لشخصية الإنسان المتألقة والواضعة لها في إطار الطهارة النفسية من دنس الخطايا والمعايب، وأما حياة التيه والضياع فهي نِتاج تغييب العقل الواعي عن أدائه الوظيفي في تبيان حقائق الأمور والنتائج المترتبة على الخُطى قبل الخوض في ميدان الحياة العملي.
كما أن مفهوم الرزق يلقى توضيحًا وتبيانًا من الإمام (ع) بما يُجلي حقيقته بعيدًا عن الأوهام والاشتباهات، فيعيد صياغة مفهوم طلب الرزق ضمن أفق أخلاقي وروحي عميق واضعًا إياه في إطار السعي الطبيعي للإنسان نحو تلبية احتياجاته المادية والمعنوية، بعيدًا عن الفهم المادي الضيق الذي يحصر السعي الدنيوي في دائرة الطمع والجشع وحصر المساعي في طلب الملذات، بما يبرز صورة قبيحة عن ذلك الإنسان المكرّم في عقله وسلوكه المنغمس في عالم الغرائز البهيمية المتفلّتة، فالإمام لا يذمّ الدنيا بذاتها كيف وهي عالم الإنسان وميدان عمله وسعيه نحو عالم الآخرة، وإنما يذمّ الغاية التي تُطلب من أجلها وتلك الروح الاقتتالية نحو تحصيل ملذاتها الفانية واضعًا خلف ظهره كل تلك القيم الأخلاقية.
إن هذا الحديث يرسم ملامح الإنسان المتوازن الذي يجمع بين الروح والمادة وبين العبادة والعمل وبين الفرد والمجتمع، ويفنّد الفهم الخاطئ الذي يصوّر الزهد على أنه انقطاع عن الحياة ويؤسس بدلًا عنه لزهد واعٍ، ولذا فإن طلب الدنيا وفق هذا المنهج ليس سقوطًا في حبها بل ارتقاء بها، وبهذا الفهم يصبح السعي اليومي للرزق مشروعًا أخرويًا بامتياز، إذا اقترن بنية صحيحة ومسؤولية أخلاقية وكان موجهًا لخدمة الإنسان وصيانة كرامته وبناء مجتمع متكافل يراعي ويلحظ فيه الإنسان الطرف الضعيف والمحتاج ويسعى لرفع كاهل الهموم والمتاعب عنه ما استطاع إلى ذاك سبيلًا.
السعي الحثيث وطلب الرزق قيمة عالية وذلك لارتباطه بمفهوم الاعتماد على النفس وتجنب ذل السؤا، فالاستعفاف قيمة أخلاقية سامية تعني حفظ كرامة الإنسان من ذلّ السؤال والتبعية، ومن يطلب الرزق ليغنيه الله تعالى عن مدّ يده للآخرين إنما يترجم توكله على الله تعالى عمليًّا، وبهذا المعنى يتحول العمل والكسب إلى عبادة تحفظ للإنسان عزّته، وتشيع في الفكر المجتمعي روح الاعتماد على النفس بدل الاتكالية.
كما أن العمل يحمل طابعًا أسريًّا من خلال تحمل هذه المسؤولية عن توفير مستلزمات الحياة الكريمة، والسعي لتأمين حاجاتها هو من مصاديق الجهاد اليومي الذي قد يفوق في أثره كثيرًا من العبادات الفردية، ومن هذا المنطلق يصبح الإنفاق على الأهل تعبيرًا عن الرحمة والاستقرار وحفظ التوازن النفسي والاجتماعي داخل الأسرة.
كما أن العمل يربط الكسب الحلال بحسّ اجتماعي راقٍ يمتد إلى المحيط القريب، والتعطّف على الجار يعني الإحساس بحاجاته ومشاركته همومه ومنع نشوء الفوارق القاسية التي تهدد السلم الاجتماعي، وإذ تتجلى رؤية الإسلام للدنيا بوصفها وسيلة لبناء شبكة من التكافل والتراحم لا ساحة صراع يحمل طابع الأنانية، كما أن الوجه المشرق يوم القيامة هو انعكاس لنقاء الباطن في الدنيا، ولصفاء النية التي حوّلت السعي الدنيوي إلى طريق للآخرة.




