
د. حجي الزويد
مقدمة وتعريف:
وردت صلاة خاصة في أيام الجمع من شهر رجب:
روى السيد أيضًا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إنّ من صلّى يوم الجمعة من رجب أربع ركعات ما بين صلاة الظهر وصلاة العصر يقرأ في كلّ ركعة الحمد مرّة وآية الكرسي سبع مرّات وقل هو الله أحد خمس مرّات ثمّ يقول عشرًا: أستَغفِرُ الله الَّذي لا إلهَ إلاّ هُوَ وَأسألُهُ التَّوبَةَ، كتب الله له من اليوم الذي صلّى فيه هذه الصلاة الى اليوم الذي يموت فيه بكلّ يوم ألف حسنة، وأعطاه بكلّ آية تلاها مدينة في الجنة من الياقوت الأحمر، وبكلّ حرف قصرًا في الجنة من الدرّ الأبيض، وزوّجه حور العين، ورضي عنه بغير سخط، وكُتب من العابدين، وختم له بالسعادة والمغفرة» (١)
تكشف هذه الصلاة عن منهجٍ روحي متكامل يجمع بين تصحيح العقيدة (بآية الكرسي والتوحيد)، وتطهير النفس بالاستغفار، في زمنٍ مُعظَّم هو يوم الجمعة من شهر رجب. ودلالة الثواب الممتدّ إلى آخر العمر تشير إلى أنّ العبادة الواعية تُحدث تحوّلًا دائمًا في مسار الإنسان لا أثرًا آنيًا عابرًا. أمّا تنوّع صور الجزاء، فيعبّر عن تجلّيات متعددة للكمال الوجودي الناتج عن هذا الجمع بين التوحيد والتوبة. وكتابة المصلّي من العابدين تدلّ على انتقاله من مجرّد أداء الفعل إلى مقام العبادة الحيّة. وختام الرواية بالرضا الإلهي يؤكّد أنّ الغاية القصوى ليست كثرة النعيم، بل حسن العاقبة والقرب من الله.
قراءة في الدلالات الروحية والتربوية للرواية:
تُبرز هذه الرواية المروية عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) منزلةً خاصّة لصلاةٍ مخصوصة في يوم الجمعة من شهر رجب، وهو اجتماعٌ لثلاثة مواطن شرف:
• شرف الزمان (شهر رجب)
• شرف اليوم (يوم الجمعة)
• شرف العبادة المركّبة (الصلاة، والذكر، والاستغفار)
وهذا الاجتماع ليس عارضًا، بل يكشف عن نظام تربوي متكامل في بناء الإنسان المؤمن.
أولًا: بنية الصلاة ومعناها التربوي
تتكوّن هذه الصلاة من عناصر منتقاة بعناية:
• الحمد: تثبيت أصل العبودية والشكر
• آية الكرسي: ترسيخ التوحيد والولاية الإلهية والهيمنة الربانية
• سورة التوحيد: تصفية العقيدة من كل شائبة
• الاستغفار: تطهير النفس بعد تثبيت المعرفة
وهذا التدرّج يُظهر أن المغفرة لا تُطلب قبل تصحيح التصوّر عن الله، ولا تُنال قبل إعادة ترتيب الداخل.
ثانيًا: الاستغفار بعد المعرفة لا قبلها
اللافت في الرواية أنّ الاستغفار يأتي بعد الصلاة والذكر، لا قبلها. وهذا يحمل دلالة عميقة مفادها أنّ الاستغفار ليس حركة يأس، ولا اعتذارًا شكليًا؛ بل ثمرة وعيٍ بحقيقة التقصير بعد الوقوف بين يدي الله، فالعبد هنا يستغفر وهو في أعلى حالات الحضور، لا في حال الغفلة.
ثالثًا: دلالة الثواب الممتدّ إلى آخر العمر
تذكر الرواية أنّ الله يكتب للمصلّي من يوم أدائه هذه الصلاة إلى يوم وفاته ألف حسنة عن كل يوم، وهو ثواب ممتدّ زمنيًا، لا لحظةً واحدة.
وهذا يشير إلى أنّ هذه الصلاة تُحدث تحوّلًا مستمرًا في مسار الحياة، وتفتح خطًّا من البركة لا ينقطع، وتُخرج العمل من كونه لحظة إلى كونه مسارًا وجوديًا
رابعًا: رمزية الثواب الأخروي
ما ورد من ذكر المدن من الياقوت الأحمر، و القصور من الدرّ الأبيض، والرضا الإلهي، والختم بالسعادة، لا يُفهم بوصفه توصيفًا ماديًا محضًا، بل يحمل رمزية روحية:
• الياقوت رمز الصفاء
• والدرّ رمز النقاء
• والرضا غاية الغايات
• والختم بالسعادة تعبير عن حسن العاقبة
فالجزاء هنا من جنس العمل: توحيد، صفاء، واستغفار.
خامسًا: كتابة العبد من العابدين
تختم الرواية بأن يُكتب صاحب هذه الصلاة من العابدين، لا من المصلّين فقط. والفرق دقيق؛ فكل عابدٍ مصلٍّ، وليس كل مصلٍّ عابدًا.
فالعبادة هنا حالة قلبية، واستقامة سلوكية، وحضور دائم مع الله، وهي ثمرة هذا الجمع بين الصلاة، والتوحيد، والاستغفار.
سادسًا: رسالة عملية للمؤمن
تحمل هذه الرواية رسالة واضحة: أنّ القرب من الله لا يحتاج إلى أعمال خارقة، بل إلى صدق في التوجّه، وانتقاء للعبادة في مواسمها، وجمعٍ بين المعرفة والتوبة؛ فصلاة واحدة بوعي قد تغيّر مسار عمر كامل.
خاتمة:
تكشف هذه الرواية عن عمق الرؤية الإسلامية في التربية الروحية؛ إذ تجعل من صلاةٍ محدودة في زمنٍ محدّد بابًا مفتوحًا للسعادة الدائمة، لا عبر الكثرة المجردة، بل عبر العمل المؤسَّس على التوحيد، والذكر، والاستغفار الواعي.
وهي دعوة لكل مؤمن أن لا يستهين بالأعمال الموسمية، إذا اقترنت بالحضور، والصدق، وحسن الظن بالله.
(١) مفاتيح الجنان، إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس.




