
د. حجي الزويد
قد تظنّ أن النوم الجيد يبدأ في الدماغ، ولكن النوم العميق المُرمِّم يبدأ في الواقع في مكان أدنى بكثير في الجسم: الأمعاء.
يؤدي مجتمعٌ يضمّ تريليونات الكائنات الدقيقة التي تعيش في الجهاز الهضمي، والمعروف باسم الميكروبيوم المعوي، دورًا قويًا في تنظيم جودة النوم والمزاج والصحة العامة. عندما يكون الميكروبيوم متوازنًا وصحيًا، يكون النوم أفضل وأكثر استقرارًا. أما عندما يختلّ توازنه، فغالبًا ما تظهر الأرق، واضطرابات النوم، وسوء انتظام دورات النوم.
كيف ترسل الأمعاء رسائلها إلى الدماغ؟
يتواصل الجهاز الهضمي والدماغ باستمرار عبر ما يُعرف بـ محور الأمعاء–الدماغ. وتشمل هذه الشبكة من التواصل الأعصاب والهرمونات وإشارات الجهاز المناعي.
وأشهر مكوّن في هذا النظام هو العصب المبهم، الذي يعمل كخط اتصال ثنائي الاتجاه ينقل المعلومات بين الأمعاء والدماغ. ولا يزال الباحثون يدرسون مدى أهمية العصب المبهم في النوم، إلا أن الأدلة تشير إلى أن نشاطه القوي يدعم حالةً أكثر هدوءًا للجهاز العصبي، وانتظامًا في ضربات القلب، وانتقالًا أسهل إلى حالة الراحة والنوم. ولهذا الارتباط الوثيق، فإن أي تغيّر في صحة الأمعاء ينعكس مباشرة على كيفية تنظيم الدماغ للتوتر والمزاج والنوم.
لا تقتصر وظيفة ميكروبات الأمعاء على هضم الطعام فقط، بل تقوم أيضًا بإنتاج نواقل عصبية ومركّبات كيميائية تؤثر في الهرمونات المرتبطة بالنوم.
تُعرف هذه المركّبات باسم المستقلبات، وهي نواتج كيميائية صغيرة تتكوّن عندما تقوم الميكروبات بتفكيك الطعام أو التفاعل فيما بينها. العديد من هذه المستقلبات يؤثر في الالتهاب، وإنتاج الهرمونات، والساعة البيولوجية للجسم.
عندما تكون الأمعاء متوازنة، ترسل هذه المواد إشارات هادئة ومنتظمة تدعم النوم الطبيعي. أما عند اختلال التوازن الميكروبي، وهي حالة تُعرف بـ الدسبايوسيس، يصبح نظام الإشارات هذا غير منتظم وغير موثوق.
تنتج الأمعاء أيضًا عدة مواد كيميائية أساسية مرتبطة بالنوم.
فـ السيروتونين مثلًا ينظّم المزاج ويساعد على ضبط دورة النوم والاستيقاظ، ومعظم السيروتونين في الجسم يُنتَج في الأمعاء، وتساعد البكتيريا النافعة على استقرار إنتاجه.
أما الميلاتونين، الهرمون الذي يجعلك تشعر بالنعاس ليلًا، فلا يُنتج فقط في الغدة الصنوبرية، بل يُصنَع أيضًا في أجزاء مختلفة من الجهاز الهضمي. وتساعد الأمعاء على تحويل السيروتونين إلى ميلاتونين، لذلك تؤثر حالتها مباشرة في كفاءة هذه العملية.
كما تدعم الأمعاء إنتاج GABA (حمض غاما-أمينوبيوتيريك)، وهو ناقل عصبي مهدّئ تنتجه بعض البكتيريا المفيدة. يعمل GABA على تهدئة الجهاز العصبي وإرسال إشارة إلى الجسم بأنه في حالة أمان تسمح بالاسترخاء. وتشكل هذه المواد معًا جزءًا من الإيقاع اليومي للجسم، وهو دورة داخلية مدتها 24 ساعة تنظّم النوم والشهية والهرمونات وحرارة الجسم. وعندما تسيطر البكتيريا الضارة، يصبح هذا الإيقاع أقل استقرارًا، ما قد يساهم في الأرق والقلق عند النوم وتقطّع النوم.
الالتهاب: طريق آخر يربط الأمعاء بالنوم
هناك مسار مهم آخر يربط بين الأمعاء والنوم وهو الالتهاب. تحافظ الأمعاء السليمة على توازن الاستجابة المناعية عبر حماية بطانة الأمعاء، واستضافة ميكروبات تنظّم نشاط المناعة، وإنتاج مركّبات تُهدّئ التفاعلات الالتهابية.
لكن إذا حدث اختلال ميكروبي أو تسبّب نظام غذائي سيئ في تهيّج بطانة الأمعاء، فقد تتكوّن فجوات بين خلايا جدار الأمعاء، ما يسمح بمرور جزيئات التهابية إلى مجرى الدم ويؤدي إلى التهاب مزمن منخفض الدرجة.
ومن المعروف أن الالتهاب يعرقل تنظيم النوم؛ إذ يؤثر في قدرة الدماغ على الانتقال السلس بين مراحل النوم، لأن المواد الالتهابية تتداخل مع المناطق الدماغية المسؤولة عن اليقظة والراحة. ويلاحظ المصابون بحالات معوية التهابية هذا الأمر بوضوح في حياتهم اليومية.
فمتلازمة القولون العصبي، وحساسية الأطعمة، وزيادة نفاذية الأمعاء (المعروفة بالأمعاء المتسرّبة)، كلها حالات تترافق مع تهيّج أو ضعف في بطانة الأمعاء، ما يسمح بدخول مواد محفِّزة للمناعة إلى الدم بسهولة أكبر، فيزداد الالتهاب ويتأثر النوم. كما يرفع الالتهاب مستويات هرمون التوتر الكورتيزول، مما يجعل الجسم في حالة استعداد ونشاط بدلًا من الراحة.
التوتر، النوم، وصحة الأمعاء: حلقة مترابطة
يرتبط التوتر والنوم وصحة الأمعاء ببعضها في حلقة مستمرة. فالتوتر يغيّر الميكروبيوم المعوي عبر تقليل البكتيريا المفيدة وزيادة المركّبات الالتهابية. ثم ترسل الأمعاء المختلّة إشارات ضيق إلى الدماغ، فيزداد القلق ويتدهور النوم. وقلة النوم بدورها ترفع الكورتيزول أكثر، مما يزيد اختلال الأمعاء. وهكذا تتشكّل حلقة يصعب كسرها ما لم يتم دعم صحة الأمعاء.
كيف نقوّي الأمعاء لنحصل على نوم أفضل؟
إن تقوية صحة الأمعاء يمكن أن تُحسّن النوم بشكل ملحوظ، ولا يتطلب ذلك خطوات معقّدة.
فتناول الأطعمة البريبايوتيك والبروبيوتيك، وخاصة الأطعمة المخمّرة، يدعم البكتيريا النافعة لأن التخمر يوفّر بكتيريا حيّة تساعد على إعادة توازن الميكروبيوم.
كما أن تقليل السكريات والأطعمة فائقة التصنيع يخفّف الالتهاب ويمنع اختلال التوازن، لأن هذه الأطعمة تغذّي البكتيريا الضارة وتنتج نواتج التهابية.
والحفاظ على مواعيد ثابتة للوجبات يساعد الأمعاء على الالتزام بإيقاع يومي منتظم، لأن للجهاز الهضمي ساعة داخلية خاصة به. وعلاج التوتر تُحدث فرقًا واضحًا، كما أن شرب كميات كافية من الماء يدعم الميكروبيوم المعوي عبر تحسين الهضم ونقل المغذيات والحفاظ على الطبقة المخاطية التي تحمي بطانة الأمعاء.
الخلاصة:
إن النوم الجيد لا يبدأ لحظة دخولك إلى السرير، بل يبدأ قبل ذلك بكثير، ويتشكّل من خلال صحة الأمعاء والرسائل التي ترسلها إلى الدماغ طوال اليوم. وعندما تكون الأمعاء متوازنة ومدعومة، يصبح الجسم أكثر قدرة على الهدوء والتعافي والدخول في الإيقاعات الطبيعية التي تسمح للنوم بأن يتحسّن بشكل طبيعي.
هوامش:
تمت ترجمة المقال بموافقة من الكاتبة منال محمد و الموقع The Conversation
https://theconversation.com/good-sleep-starts-in-the-gut-270487




