لقاءات صحفية

د. عائض القحطاني: النقد النفسي يقرأ ما يُخفى لا ما يُقال

دلال الطريفي : الأحساء

لم يعد النص الأدبي مجرد بناء لغوي أو متعة جمالية فحسب، بل تحوّل – في ضوء المناهج الحديثة – إلى مساحة مفتوحة لفهم الإنسان في أعماقه النفسية وصراعاته الداخلية، ويأتي النقد النفسي بوصفه أحد أكثر الاتجاهات النقدية قدرة على سبر أغوار النص، وربط الإبداع باللاشعور الفردي والجمعي، كاشفًا ما وراء السلوك والدلالة.

في هذا الحوار الخاص مع صحيفة بشائر، يفتح الدكتور عائض فهد القحطاني، الحاصل على الدكتوراة في علم النفس الإرشادي، نافذة معرفية عميقة على مفهوم النقد النفسي، وحدوده، وأهميته، وتحدياته في المشهد الأدبي العربي.

بدايةً، كيف يمكن تعريف النقد النفسي للقارئ غير المختص؟

النقد النفسي – ببساطة – هو أسلوب في قراءة الأدب يربط بين النص وبين مفاهيم علم النفس، سواء من خلال الشخصيات، أو المؤلف، أو حتى القارئ نفسه.

يتعامل هذا المنهج مع النص الأدبي بوصفه مرآة للنفس البشرية، ويستخدم مفاهيم مثل اللاشعور، والأنا، والقلق، والإسقاط، والحيل الدفاعية لفهم الدوافع والصراعات الخفية.

ومن هنا تبدأ الأسئلة الجوهرية: لماذا تتصرف هذه الشخصية على هذا النحو؟ ما مخاوفها؟ وما الذي تخفيه خلف سلوكها الظاهر؟

ما الفرق الجوهري بين النقد النفسي وأنواع النقد الأخرى؟

الفرق الأساسي يكمن في زاوية النظر وأدوات التحليل.

فالنقد النفسي ينظر إلى النص من زاوية نفسية، مستخدمًا أدوات علم النفس، بهدف تفسير الدوافع والسلوكيات.

بينما يركّز النقد الأدبي التقليدي على اللغة والبنية والجماليات الفنية، ويعتمد النقد الانطباعي على مشاعر الناقد الشخصية، في حين يربط النقد الاجتماعي الأدب بسياقه المجتمعي والثقافي.

وباختصار: النقد النفسي يفسّر ما وراء السلوك، أما النقد الأدبي يركّز على الشكل واللغة.

إلى أي مدى يمكن اعتبار العمل الأدبي مرآة للاشعور الفردي أو الجمعي للمبدع؟

إلى مدى كبير جدًا، فالأدب غالبًا ما يعبّر عمّا لا يُقال صراحة.

الكاتب – دون وعي – يُسقط مشاعره، ورغباته، ومخاوفه، وتجربته النفسية في نصوصه، حتى وإن بدت متخيلة.

كما أن الأدب يعكس لاشعورًا جمعيًا عبر رموز إنسانية مشتركة، مثل: الأم، البطل، الموت، الولادة.

ولهذا أقول دائمًا: النص الأدبي لا يُقرأ بما يبوح به فقط، بل بما يُخفيه أيضًا… إنه حلم مكتوب أو اعتراف مقنّع.

هل يجوز للناقد النفسي قراءة النص من خلال شخصية الكاتب؟

نعم، هذا جائز ومن صميم النقد النفسي، ولكن بشروط منهجية صارمة.

أهمها: عدم الوقوع في التفسيرات السطحية أو تحويل النقد إلى تشخيص نفسي مباشر، بل الاستناد إلى ما يقدمه النص نفسه من إشارات ودلالات.

ما أهمية تحليل الشخصيات نفسيًا في فهم العمل الأدبي؟

تحليل الشخصيات نفسيًا يفتح أبوابًا عميقة لفهم العمل، من خلال:

كشف البنية النفسية للنص، فهم الرمزية والتحولات الدرامية، إبراز القضايا الجوهرية، تقريب النص من القارئ، وإضاءة الجانب النفسي للمبدع ذاته.

هل يمكن للنقد النفسي أن يكشف عن مشاعر دفينة لدى القارئ نفسه؟

بالتأكيد.

فالقارئ حين يقرأ نصًا قراءة نفسية، يبدأ – دون وعي – بمقارنة الشخصيات بنفسه.

قد يتعاطف مع شخصية بلا مبرر منطقي، أو يشعر بانجذاب غامض لصراع ما، وهنا يظهر الصدى النفسي الخفي.

النقد النفسي لا يفسّر النص فقط، بل يكشف القارئ لنفسه.

إلى أي مدى يسهم هذا النوع من النقد في تعزيز الوعي بالصحة النفسية؟

إسهامه كبير جدًا، بل استُخدم أحيانًا كوسيلة علاجية غير مباشرة.

فهو يعزز التأمل الذاتي، ويكسر وصمة المرض النفسي، وينمّي الذكاء العاطفي، ويدعم التفريغ النفسي.

إنه يعيد تشكيل العلاقة بين القارئ وذاته.

كيف تقيّمون حضور النقد النفسي في المشهد الأدبي العربي؟

هو في طور التكوين والتوسع.

هناك حضور أكاديمي وإعلامي وقرائي، لكنه ما زال بحاجة إلى تأصيل أعمق، وجسر معرفي أوضح بين الأدب وعلم النفس.

ومع ازدياد الاهتمام بفهم الذات، يبدو المستقبل واعدًا.

ما أبرز التحديات التي تواجه هذا الاتجاه؟

أهمها: الخلط بين النقد النفسي والإسقاطات العشوائية، قلة المتخصصين، والحاجة إلى لغة نقدية تجمع بين الدقة النفسية والروح الأدبية العربية.

ما الضوابط الأخلاقية التي يجب أن يلتزم بها الناقد النفسي؟

أبرزها: احترام خصوصية المبدع، عدم تحويل النقد إلى تشخيص، التمييز بين النص وصاحبه، تجنب الجزم والتعميم، الالتزام بالموضوعية، والابتعاد عن التشهير.

الناقد النفسي مسؤول أمام النص، والقارئ، والإنسان خلف الإبداع.

أخيرًا، ما النصيحة التي تقدمونها للباحثين الشباب؟

ابدأوا من الجسر لا من الضفة.

اجمعوا بين علم النفس والأدب بوعي منهجي، واكتبوا للفهم لا للإبهار، ولتكن غايتكم تعميق فهم الإنسان داخل النص… لا وضعه تحت المجهر.

وفي الختام يكشف هذا الحوار مع الدكتور عائض القحطاني أن النقد النفسي ليس ترفًا معرفيًا، بل أداة وعي إنساني، تعيد للأدب وظيفته العميقة في فهم الذات والآخر.

وبين النص والنفس، تتشكل قراءة أكثر إنصافًا للإنسان، وأكثر صدقًا مع الإبداع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى