حين يكشف النور عن وجه الله

أحمد الطويل
مقدمة:
تخيّل أن كل شيء في هذا الوجود يتهاوى أمام عينيك: الجبال، البحار، العوالم، وحتى نفسك، فلا يبقى إلا نورٌ واحدٌ باقٍ لا يزول. عندها تسمع النداء الربّاني: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88]
فما هو هذا الوجه الذي يبقى؟ وكيف يُرى الله من خلاله دون أن يكون جسداً أو شكلاً؟
هنا، تتجلى أسرار العبودية، حين يدرك الإنسان أنّ لله وجهاً لا يُرى بالعين، بل يُبصر بالقلب، وجهاً هو السبيل إليه، والمظهر الذي يُعرف منه سبحانه.
وجه الله… ليس صورةً بل سبيل
الوجه في اللغة هو ما يُتوجَّه إليه ويُقصَد به.
وحين تُضاف هذه الكلمة إلى الله تعالى، فالمعنى يعلو عن الحِسّ والمكان. لا وجه مادي له جلّ وعلا، فهو منزّه عن الحدود والهيئات، ولكن له وجهٌ معنويٌّ هو الجهة التي يُعرف ويُعبد من خلالها.
تمامًا كما أن الإنسان لا يستطيع النظر مباشرة إلى الشمس لشدة نورها، فيتعرف عليها من انعكاسها على الماء الصافي، كذلك الخلق لا يدركون ذات الله، لكنهم يعرفونه من خلال مظهره الأعظم، وجهه الذي به يُقصد وإليه يُتوجَّه.
الأولياء… مرايا النور الإلهي
من هنا تتضح كلمات أمير المؤمنين عليه السلام:
“أنا وجه الله، وأنا عين الله، وأنا جنب الله”
فهو لا يدّعي ألوهية، حاشاه بل يشير إلى مقام الوساطة والظهور. فبه وبأهل البيت عليهم السلام يُعرف الله وتُتَّبع أوامره.
وقد قال الإمام الصادق عليه السلام: “من زعم أن لله وجهًا كوجوه المخلوقين فقد أشرك، ولكن وجه الله أنبياؤه وأولياؤه الذين بهم يتوجه الخلق إليه.”
إنهم مرآة النور الإلهي، لا يُعبدون من دون الله، بل يُقصد بهم إلى الله. فهم وجهه بمعنى أنهم المظهر الأكمل لصفاته، والسبيل الأوضح لعبوديته، كما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة: “مَن أراد الله بدأ بكم، ومن وحّده قبل عنكم.”
«ويبقى وجه ربك»، معنى البقاء الحقيقي
كل ما نراه حولنا فانٍ: الأجساد، الحضارات، المظاهر. حتى العلوم والأفكار تتبدل، إلا الحقيقة التي تمثل وجه الله في خلقه. ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 27]
يفسّر الإمام زين العابدين عليه السلام هذه الآية بقوله: “نحن الوجه الذي يُؤتى الله منه.”
أي أن البقاء لله، ولكنّ وجهه الباقي هم حججه وأولياؤه، الذين لم تنقطع بهم سبل الهداية قط. بهم بقي الدين، وبهم يتواصل النور من السماء إلى الأرض.
وجه الله في هذا الزمان، الحجة المنتظر
لم تخْلُ الأرض يومًا من وجهٍ لله ظاهرٍ أو غائب، به يُستسقى الغيث وتُحفظ الأرض ومن عليها.
وفي عصرنا هذا، وجه الله هو الإمام المهدي عليه السلام، الذي نقرأ في زيارته: “السلام على وجه الله المتلقب بين أظهر عباده.”
هو باب الله الذي يُؤتى منه، كما في دعاء الندبة:
“أين باب الله الذي منه يؤتى؟ أين وجه الله الذي إليه يتوجه الأولياء؟”
فالتوجّه إليه ليس عبادة لشخص، بل هو إقرار بأنّ لله في كل زمانٍ مظهرًا يُعرف به، وحجةً يُهتدى بنوره، فمن عرفه فقد عرف الله، ومن أنكره فقد أعرض عن وجه الله.
السرّ في المقام لا في الذات
الوجه ليس حداً، بل مقام. ومقام أهل البيت عليهم السلام ليس إلا تجليًا لأسماء الله وصفاته:
فهم علمه الناطق، ورحمته الواسعة، وجلاله الظاهر في الخلق.
قال الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾:
“نحن جلال الله وكرامته التي أكرم العباد بطاعتنا.”
فكل من قصدهم فقد قصد الله، لأنهم لا يدعون إلا إليه، ولا يشيرون إلا نحوه. هم الدليل والدرب، والوسيلة التي قال عنها تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة: 35].
الخلاصة:
وجه الله ليس جسدًا يُرى، ولا صورةً تُتصوَّر، بل هو النور الذي به يُهتدى، والسبيل الذي لا ينقطع.
هو محمد وآل محمد صلوات الله عليهم، الذين بهم عُرف الله وبهم يُعبد، وهم المرآة الصافية التي تعكس كماله وجلاله.
ومن حُرم معرفتهم فقد أدار ظهره لوجه الله، ومن والى أولياءه فقد أكرمه الله بنور لا ينطفئ.
فإذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: «أنا وجه الله» فالمعنى أنه المظهر الأتم لصفاته، والباب الذي منه يُؤتى، لا بمعنى الاتحاد، بل بمعنى الظهور والدلالة.
وإذا قال الله تعالى: «ويبقى وجه ربك»، فالمعنى أن حججه وسبله باقية، لأن بهم يُعبد وبهم يُعرف، ومن دونهم لا يُهتدى إلى الحق.
اللهم اجعلنا من العارفين بوجهك، ومن المتوجّهين إليك بقلوبٍ خاشعة، وثبّتنا على ولاية أوليائك، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
المصادر والهوامش
1. القرآن الكريم: القصص 88، الرحمن 27، المائدة 35.
2. الإمام علي عليه السلام، نهج البلاغة، كلمات الحكمة.
3. الكافي، ج1، باب التوحيد، حديث الإمام الصادق عليه السلام.
4. تفسير الميزان، السيد محمد حسين الطباطبائي، ج19.
5. تفسير القمي، ج2.
6. مناقب ابن شهرآشوب، ج3
7. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج4، باب «وجه الله».
8. الزيارة الجامعة الكبيرة.
9. دعاء الندبة.
10. زيارة الإمام المهدي عليه السلام، مفاتيح الجنان.




