أقلام

السيد علي الناصر بين العلم والعمل

السيد هاشم السلمان

“كلمة سماحة السيد هاشم السلمان، أمين عام الحوزة العلمية بالأحساء، بمناسبة تكريم السيد علي الناصر السلمان”

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد.

لعل من السهل على كل منتم لهذه المنطقة، بل لكل متابع لحركة سماحة العم -العلامة الحجة السيد علي ابن المرجع الديني السيد ناصر السلمان حفظه الله تعالى وأطال في عمره الشريف- أن يتحدث بإسهاب عن حضوره على الصعيدين العلمي والديني؛ وذلك لما لهما من بروز وامتداد ظاهر للعيان، ولكن الحديث من مثلي عنه ليس بالأمر اليسير؛ وذلك لطبيعة العلاقة الرحمية ووشائجها التي تربطني بسماحته، الأمر الذي يجعلني في موقف لا يخلو من صعوبة تستوجب ضرورة الدقة والعناية والموضوعية؛ لأني إن و فيته حقه بما يستحق قد ينسب حديثي عنه للمبالغة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن قصرت في الحديث عنه فهنا حتما سأكون مجافيا للحقيقة والواقع، ولكن لعل المنجزات التي أثمرت عنه تجربته عبر عمره المديد بالعطاء خير شافع لي في أخذ الفرصة بما يتيح لي إياها الوقت على قصره الذي اسقط عني الوفاء بتمام حقه؛ لانتفاء القدرة التي هي شرط من شروط تنجيز التكليف، ولهذا اتقدم لسماحة العم واليكم بالاعتذار عن اختصار فيما سأتحدث فيه عن سماحته، وذلك لتداعيات تلك الصعوبة.

وعلى كل حال يمكننا على سبيل الاجمال اعتبار البعد العلمي والدور الديني في مسيرة سماحة العم وجهين لعملة واحدة:
احدهما:(المجال العلمي النظري)، والاخر (المجال العلمي العملي).
وما يهمنا في هذا الصدد ونحن نستحضر مسيرة شخصية امتلكت مقومات التمييز العلمي والابداع العملي ان نتسائل: ماذا يمكن أن نستوحي من هذين البعيدين؟ حيث هو الهدف من استحضار سيرة العظماء.

ولتسليط الضوء على هذين الجانبين لا بد أن نستعرض شيئا قليلا من مسيرته للوقوف على حقيقة ذلك في البعدين المذكورين بما يلي:

الجانب الأول: المجال العلمي.
يلاحظ في سيرته المباركة أنه منذ البداية كانت له خيارات متميزة لبناء شخصيته الفكرية، وذلك بإختياره ان يكون من علماء الامة لا من جهالها؛ ليرتفع بذلك درجة عند الله حيث يقول عز وجل: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).

كما اختار من أجل تحصيل هذه الفضيلة الجمع بين منهج التحصيل العلمي الموروث التقليدي الذي سارت عليه الحوزات منذ قرون عديدة، ومنهج الدراسة النظامية الحديثة؛ استجابة منه لمعطيات الواقع آنذاك.
فبالإضافة الى حضوره دروس الفضلاء في حلقاتهم الموزعة في أروقتها العامة ألتحق بركب الدراسة النظامية في جمعية منتدى النشر؛ ليتخرج منها بدرجة البكالوريوس في مجال اللغة العربية والفقه، وذلك بغية التوسع في المعارف، وضرورة التجديد ومواكبة احتياجات المجتمع لرفع حالة الوعي والثقافة آنذاك.
وقد لا يكون هذا الجمع ملفتاً حتى يدعى بالتمييز اذا ما تم لحاظ عدد المتخرجين آنذاك من عدة دول إسلامية، ولكن بالمقارنة مع اقرانه من طلاب العلم من الاحساء والقطيف والبحرين الذين يرون ضرورة المحافظة على الطريقة الموروثة، والاقتصار عليها في تحصيل الفضيلة العلمية، الأمر الذي جعل الانتساب الى تلك الكليات الشرعية الحديثة لا يحظى به الا القليل من طلاب الخليج.

من هنا ندرك عمق هذه الخطوة نحو تحقيق التمييز، وهذه الروحية التواقة للتجديد التي لازمته وظلت تتوهج بين جوانبه اثناء اقامته في النجف الاشرف، ومن آثارها أن كانت خياراته في مرحلة دراساته العليا في مراحل البحث الخارج هو البحث عن عمالقة البحث الفقهي والاصولي، ويظهر ذلك جليا من خلال حضوره بحث السيدِ محسن الحكيم (قدس) المعروف بالذوق والدقة الفقهية وحضور بحث السيدِ الخوئي (قدس) المعروف بالعمق الاصولي واخيرا اختار العمق والتجديد والأبداع من خلال حضوره دروس فقيد العلم والتجديد الشهيد السيدِ محمد باقر الصدر رضوان الله عليه.

وكما كان خياره المتميز في التلقي وحضور مجالس الأعلام في زمانه، كان له أيضا جانب التميز في التدريس وتربية طلاب العلم آنذاك، و قد ظهر ذلك جليا في مستوى دروسه التي كان يلقيها آنذاك، وما عرف به من قدرة علمية في استحضار المطالب العلمية، ودقة في صياغتها، وبيان مؤثر في إلقائها، حتى لقد كان موضع اختيار النخبة من طلاب العلم لحضور درسه الشريف في حلقات الدروس الحوزوية التقليدية، من جهة ، ومن جهة أخرى تم انتخابه مدرساً في كلية الفقه التي تخرج فيها، وكذا دار الحكمة واصبح من الاساتذة الذين لهم التميز ليس على مستوى الجالية الاحسائية بل امتدت الى طلاب دول الخليج والعراق ولبنان وقد اصبح بحمد الله العديد منهم اصحاب مراتب علمية يشار لهم بالبنان.

وبنفس هذه الروح .. التواقة للعلم والتجديد انتقل بها إلى مسقط رأسه الأحساء، وكله طموح في أن ينقل تجاربه ومعارفه، وأن يجسد رؤاه وما يتلطع إليه على ارض الواقع، وذلك من خلال تنشيط مسار الحوزة العلمية بالأحساء في مرحلتها الرابعة من عمرها الشريف، الأولى في تأسيس الجد السيد هاشم السلمان (ت1309هـ) ، والمرحلة الثانية بدور الجد السيد ناصر السلمان(ت1357هـ)، والثالثة بدور من السيد محمد السيد علي الحسن والرابعة قام بدور مشترك مع السيد محمد علي العلي السلمان مطلع هذا القرن تقريبا 1404هـ ولكن ببصمة خاصة من العم السيد علي.
وبصمته الخاصة تتسم في أنه لما وجد من اقبال الطلاب وزيادة أعدادهم وزيادة عدد حلقات الدرس وتنوع الدروس فيها، تَوَّجَ هذه المرحلة في عام 1413بإضافة نوعية، قام خلالها برسم روية حديثة لمستقبل الحوزة العلمية بالأحساء، و بشكل متناغم مع معطيات الواقع وطبيعة المرحلة، وهو أن تكون الحوزة تحت مظلة نظام يراعى فيها سير الدراسة كغيرها من المؤسسات العلمية، من ضبط لإيقاعها على عدة عناصر أساسية للدروس النظامية:
1-الأستاذ.
2-الطالب.
3-الكتاب.
4-المكان.
5-الزمان.
6-تقييم الطالب والأستاذ، وذلك عبر قياس تحصيل الطلاب أنفسهم من خلال اختبارات دورية، بموجبها يتحدد إمكانية استمرار الطالب في الدراسة وانتقاله إلى الصفوف التي تليها، بل ويكرم المتفوقين منه ويجعل منهم أساتذة مع استيفاء بعض الضوابط الأخرى من القابليات الأخرى.

وأن تتنوع الدروس التي يدرسها الطالب لتشمل الدروس الأساسية في الحوزات العلمية مع مراعاة الأخذ بمستواها وعمق تأصيلها كما هي في حلقات الدروس التقليدية، و الانفتاح على ما أفرزه واقع النمو والتطور في المقررات الدراسية وأحدث النظريات العلمية في مجال الفقه والأصول في الحوزات أيضا، مضافا إليها بعض الدروس الحديثة في التخصصات العلمية الأخرى ذات الصلة بواقع التخصص العلمي الشرعي، وفي ما يلي قائمة بالعلوم التي تدرس في الحوزة العلمية بالأحساء مع حفظ مراحل التدرج في تلقيها وفقا لمراحل نمو معارف الطالب وطبيعة التخصصات العلمية فيها، ولكن بشكل إجمالي هي:
– علم المنطق.
– علوم اللغة العربية والأدبية.
– علوم القرآن والتفسير.
– علم الكلام.
– علم الفلسفة.
– علم أصول الفقه.
– علم الفقه.
– علم الرجال والدراية.
– المسائل الفقهية المعاصرة.
– علم الاقتصاد.
– علم التاريخ.
– علم الفقه المقارن.
– علم الأديان.
– علم الاخلاق.

وقد كان هذا الطرح آنذاك جديدا على واقع الدراسة الحوزوية في الأحساء، بل وحتى مجالس الدرس في القطيف والبحرين، وقد وضع لها أطرا وضوابط وتم تفعيلها من قبل مجلس علمي أعلى يرأسه سماحته، وبعضوية نخبة من أصحاب الفضيلة والسماحة، وها هي بحمد الله تجربة ماثلة للعيان تدخل عقدها الرابع وقد اشتد قوامها حينما انتقلت الحوزة الى مقرها الجديد عام 1425هـ، الذي قام سماحة العم بتشييده على ارض بلغت مساحتها 3500 متر وهو مقر توفرت فيه جميع ما يلزم لنجاح خطوة التجديد والإبداع في تقديم الخدمات العلمية الحديثة في مجال تدريس العلوم الشرعية: من قاعات دراسية، ومكاتب إدارية، ومكتبة عامة، وغرف سكنية، ومرافق عامة، مضافا الى الدعم المالي المستمر للطلاب والمعلمين، حيث يتكفل سماحته باكثر من نصف الميزانية السنوية التي تتجاوز ستة ملايين سنويا.

و قد تمخض هذا الواقع وهذه التجهيزات عن العديد من الانجازات التطورية في المجال العلمي، منها مايلي:
1- تقنين المراحل الدراسية وتقسيمها الى مرحلتين كل مرحلة خمس سنوات.
2- اضافة دروس البحث الخارج في الفقه والاصول والتي بلغت ثمان دروس اربعة في الفقه واربعة في الاصول يحضرها اكثر من 90 طالب.
1- اضافة تخصصات علمية جديدة تم انجاز اثنين منها هما: أ-تخصص العقائد والفلسفة، ب- تخصص التفسير وعلوم القرآن.
واثنان تحت الاعداد: أ- تخصص الحديث والرجال، ب- تخصص الخطابة والسيرة
3- كتابة مناهج دراسية جديدة لمؤلفين من فضلاء الحوزة منها ما يلي:
1- اسس التفسير – للشيخ عبدالجليل المكراني.
2- المدارس التفسيرية – للشيخ اسماعيل الهفوفي.
3- قواعد مهمة في علم الكلام- للشيخ حيدر السندي.
4- علم النفس الفلسفي – للشيخ أحمد الدهنين.
4- تأسيس ادارة البحث العلمي وتحقيق التراث بأشراف: د.الشيخ محمد الخرس، يقوم على تدريب الطلاب بمهارات كتابة البحوث العلمية وكيفية التحقيق العلمي، وقد نتجت هذه التجربة عن صدور 42 بحثا و10 تحقيقات، وقد تم نشره هذه البحوث عبر نشرة علمية فصلية محكمة صادرة من الحوزة العلمية بالأحساء موسومة بـ ( ريادة للدراسات الإسلامية) صدر منها 7 مجلدات نشر فيها 26 بحثا من بحوث طلاب الحوزة.
5- تقديم دورات تدريبية في تنمية مهارات ومعارف طلاب الحوزة العلمية بالأحساء بلغت 25 دورة في مختلف المجالات البحثية والتحقيقية و الاسرية والقانونية والاجتماعية والاعلامية والخطابية.
6- تأسيس بنك معلوماتي الكتروني يحتوي على اكثر من 10 الاف سؤال في جميع المواد الدراسية.
7- اعتماد الامتحان والتصحيح الالكتروني.
8- تأسيس مركز دراسات للصم والبكم الذي التحق به اكثر من 200 طالب وطالبة.
ومؤخرا قام العم بتأسيس حوزة علمية في مدينة الدمام تحمل نفس التوجهات الابداعية والتجديدية
وهذا ما يعكس واقع التجربة المتميزة الابداعية في البعد العلمي.

الجانب الثاني: المجال العملي.
هو إختياره لسكنى الدمام بدلا من الاحساء، وهذا في حد ذاته قرار ليس باليسير، فقد جمع على غربة تحصيله غربة جديدة عن مسقط رأسه الاحساء، وذلك لما وجده من حاجة المؤمنين في الدمام إلى من يرعى احتياجاتهم الشرعية والروحية، عليه قرر الرحيل إلى الدمام ليحتضه مجتمع مؤمن كان يتردد عليه بعض الفضلاء، ولكن لم تسنح الفرصة لأحد منهم أن يقيم بينهم، ووفقا لهذا كانوا بأمس الحاجة إلى عالم، عارف بأهل زمانه، مستحضر للمسائل الشرعية، متجدد المعارف، صاحب رأي راجح ،مأمون في الاستشارات العرفية والاجتماعية، قوي الشخصية، متكامل الجوانب في الجوانب العلمية و الخلقية كمثل سماحته، فما كان منه الا أن قام بدور قيادي فعال لمساندة ودعم ولادة هذا المجتمع الإيماني، كما تمخضت إقامته في مجتمع الدمام أن تم تأسيس اكبر جامع لاتباع أهل البيت عليهم السلام في المملكة إن لم يكن في الخليج بأسره، وكذلك قام بفتح داره يوميا طوال العام للمؤمنين؛ للإجابة على مسائلهم، والنظر في حوائجهم، وأيضا إجراء عقود الانكحة، والمصالحات المالية الشرعية، وأيضا له الدور البارز في تثبيت دعائم الإيمان و المعرفة الدينية، وتشييد معاني الولاء لمحمد وال محمد صلوات الله عليهم أجمعين من خلال إقامة مناسباتهم، ولكن هذا الأمر لم يكن إلا من خلال تقديم تضحيتين كبيرتين:
التضحية الأولى: وتتمثل في الرجوع إلى البلاد وهجرته مركز العلم وانقطاعه عن مواصلة التحصيل الحوزوي الذي بحسب المعطيات النفسية والذهنية لو قدر بقائه لبلغ ما بلغ بعض أقرانه من ذوي الفضيلة العلمية كالسيد الحائري و السيد الهاشمي وغيرهما ولكن الوظيفة الشرعية التي قامت على مراعاة الأولويات في المهام في تشخيصه وكذلك تكليف المرجعية بضرورة وجود رجل عالم مثله دفعه إلى أن يهاجر عن موطن العلم
التضحيه الثانية: وتتمثل في تركه لموطن أجداده وآبائه الأحساء و قبوله للإقامة في بلد ناشئ جديد يحتم عليه أن يبذل قصارى جهده في تأسيسه وفي تقديم الخدمات له وكذلك أن يتحمل جهده منفردا حيث لم يكن يوجد احد سواه آنذاك.
ولو قدر له ان اختار الأحساء؛ لكانت أكثر سهولة له، واكثر يسرا؛ لوجود العديد من الأقران من العلماء الذين يخففون عنه أعباء تلك المرحلة.

و في الختام
كما أجملنا العرض والوقوف على جنبات سيرته الحافلة بالتميز في التلقي والتميز في العطاء، أيضا يمكن الإجمال في الوقوف على مفاداتها والدروس المستفادة منها ولعلها أبرزها هو ضرورة العناية بالتميز والابداع في تحصيل الفضيلة العلمية الشرعية.
وكذا معنى قيمة التضحية والكفاح في الجانب العملي بعد تحصيل الفضيلة العلمية، ودورها الإيجابي على طبيعة النتائج، وجمال مكتسباتها.
نعم هذه شذرات من سيرة سماحته العلمية والعملية وهي بحق جديرة بالدراسة والتحليل واتخاذها نموذجا ومنهجا يقتدي بها العلماء والمرشدون.

وفي الختام أسأل الله العلي القدير أن يحفظ سيدنا العم المعظم وأن يطيل عمره الشريف، وأن يسبغ عليه نعمة الصحة والعافية وأن ينفعنا به و بجميع العلماء، كما أسأل الله أن يحفظهم من كل سوء وبلاء

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى