بشائر المجتمع

المكتبات الشخصية والمصير المجهول

طالب عبد الحميد البقشي

لم يقتصر إنشاء وتكوين المكتبات الشخصية أو الخاصة على وقتنا المعاصر، بل عرف تاريخيًّا أن بدايات تأسيس مثل هذه المكتبات في الأحساء كان يعود إلى أيام الدولة الجبرية، حيث كان أميرها أجود بن زامل محبًّا لجمع الكتب، ويشار إلى أن تكوين المكتبات الخاصة كان نخبويًّا ومقتصرًا على الملوك والأمراء والقضاة وطلاب العلم.
وأولى علماء الأحساء الماضون اهتمامًا وعناية بالمعرفة، وجمع أمهات الكتب والمخطوطات النادرة التي تثري فكرهم وتوسع معارفهم.
ومن الأسر العلمية التي أشتهر. عنها تكوين مكتبة أسرية خاصة في الأحساء: أسرة العبدالقادر، وأُسست هذه المكتبة قبل القرن الثاني الهجري في مدينة المبرز، وكانوا يتوارثونها جيلًا بعد جيل، وقد احتوت على ما يقارب ستة آلاف مخطوط، وقد أهداها الورثة للجامعات السعودية، وكذلك ذكر المؤرخ والباحث الشيخ محمد الحرز أن من الأسر العلمية المعروفة التي لديها مكتبات شخصية توارثتها الأجيال أسرة البوخمسين والجبران والمسبح والعيثان.

وفي العصر الحديث تزايد الإقبال، وتوسع الاهتمام في الأحساء من قبل المثقفين والأدباء والمختصين الأكاديميين وعشاق جمع الكتب بتكوين المكتبات الشخصية.

وتعددت الأسباب والعوامل لتكوين المكتبات الخاصة، من أهمها: حب المعرفة والعلم والكتب، فهي المحرك الذي يدفع الأفراد لاقتناء الكتب وامتلاكها وجمعها، إضافة إلى إثراء الثقافة والفكر لدى أصحابها والمحيطين بهم من الأهل والأقارب والزملاء، وأسباب أخرى مرتبطة بالاستثمار المعرفي، وتعلق مكونات المكتبة المنزلية بالجانب الأكاديمي والاختصاصي واحتياج المهنة لتوفير الكثير من مصادر البحث العلمي.

وقال الإمام علي عليه السلام: (منهومان لا يشبعان طالب علم، وطالب دنيا)
وقال المتنبي (وخير جليس في الزمان كتاب).
و يذكر أن صاحب أكبر مكتبة شخصية في العالم، بشهادة العديد من الوراقين والمهتمين والباحثين العرب والأجانب، هو السيد عبده مرتضى الحسيني الذي يمثل حالة فريدة في عالم جمع الكتب، و تضم مكتبته ما يزيد على نصف مليون كتاب ومجلة ودورية بمختلف اللغات القديمة والجديدة، السائدة منها والبائدة الموجودة في مدينة بعلبك بلبنان.

ويصنف من يجمع الكتب بثلاثة أصناف: جامع كتب تقليدي ويجمع الكتب بانتظام في مجال اختصاصه، وجامع كتب عاشق يحب الكتب ويهديها، وجامع كتب مجنون يجمع الكتب من أجل الجمع للكتب وقد يحرم نفسه في سبيل الحصول على الكتاب، وربما وصف بأنه مصاب بمرض (الببلومانيا) وهو مرض حب اقتناء الكتب وجمعها.
وفي عصرنا الحالي يوجد الكثير من المكتبات الشخصية في الأحساء، من أشهرها مكتبة الأستاذ عبدالله الجاسم الكائنة في بلدة المطيرفي، ويبلغ عدد كتبها 20 ألفًا ما بين كتيب وكتاب ومجلد ومجلة في شتى علوم المعرفة دون استثناء.

وللأستاذ الجاسم عشرات المقالات المتنوعة، وأصدر مؤخرًا كتابًا عن بلدة المطيرفي تحت عنوان (المطيرفي والذاكرة)، ولديه كتاب آخر ينتظر الطباعة تحت عنوان (شخصيات عاصرتها وعرفتها) يتحدث فيه عن علاقاته وذكرياته مع عدد كبير من شخصيات الأحساء والمملكة والعالم العربي وانطباعاته عنهم.

وكذلك مكتبة حسين الملاك الشخصية، وتحوي على خمسة عشر ألف كتاب تنوعت مواضيعها ما بين أدب وشعر وبلاغة ونقد ومسرح وفلسفة واجتماع وتاريخ وثقافة عامة وعلوم وسياسة وعمران وبيئة وقرآنيات وعقائد وفقه، وجمعها مخاض استمر طوال 25 سنة. والمؤلف “حسين الملاك” لديه أربعة عشر إصدارًا.

ومن المكتبات الشخصية المشهورة مكتبة جدل وصاحبها الأستاذ علي الحرز والكائنة في محافظة القطيف ببلدة أم الحمام، وتاريخ تأسيسها يعود لنحو61 عامًا مضت، وتحتوي الكتب النادرة جدًّا في مختلف المعارف. وبالمكتبة ما يقارب من الـ30 ألف عنوان ضمن مختلف الاهتمامات الفكرية والسياسية والأدبية والشعرية والروائية. وقد أصبحت محط أنظار مثقفي المملكة والمهتمين بالتوثيق والشعراء والأدباء والروائيين، وتستقبل في شكل أسبوعي وفودًا من العاصمة الرياض أو القصيم، أو المدينة المنورة، أو الأحساء أو الدمام، أو طلاب المدارس الذين لا يخلو أسبوع من زياراتهم مرتين أو ثلاثًا، فـالمكتبة مفتوحة للجميع من محبي الثقافة والتاريخ والأدب والشعر.
وفي واحة الأحساء يوجد الكثير من الأدباء والمثقفين الذين أورثوا أسرهم إرثًا ورقيًّا من نفائس الكتب الثمينة والمخطوطات النادرة، والتساؤل المطروح: ما مصير كنوز المعرفة والتراث العلمي الذي بحوزة الورثة وكيفية تصرفهم به؟ وهل يوجد مشروع لدى الورثة لهذا الإرث الثمين !! فغالبًا نجد أن الورثة هم من يحددون مصير المكتبات الشخصية.

ومن الملاحظ أن مؤسسي المكتبات لم يخططوا لمصير مكتباتهم الخاصة وما يؤول مصيرها فيما بعد انقطاعهم عن الوجود، فهناك نماذج كثيرة تدلل على ما سـوف تؤول إليه مصير المكتبات الشخصية، فمعظم المكتبات إما أن تباع بأقل الأثمان أو تُهدى إلى المساجد أو تُهدى إلى المدارس أو الجامعات، أوتهدى إلى المراكز الثقافية والمكتبات العامة التي يجتمع فيها المهتمون، وقليل من الورثة يحافظ عليها، وربما تكون عرضه لإعارة كتبها وتشتتها والضياع.
فعلى صعيد العالم العربي ذكر قديمًا أن العلامة ابن النفيس عكف سنوات على تدوين موسوعة “الشامل في الصناعة الطبية” التي ما تزال حتى يومنا هذا أكبر موسوعة علمية في التاريخ الإنساني يكتبها شخص واحد، وقد وضع ابن النفيس مسوّداتها في 300 مجلد، بيّض منها 80 مجلدًا حتى وافته المنية وهو في الثمانين من عمره عام 687هـ، وكان قد أوصى بالمجلدات الثمانين مع مكتبته وداره وأمواله إلى (المستشفى) المنصوري حيث كان رئيسًا لأطباء مصر.
وتتكرر هذه النماذج حديثًا، فنجد أن مجموعة ضخمة من المكتبات المهمة أهديت لمكتبة الإسكندرية، ومنها مكتبة الكاتب الشهير محمد حسين هيكل صاحب أول رواية في الأدب العربي، وتضم مكتبته مجموعة ثمينة من الوثائق التاريخية التي كان يمتلكها. كذلك أهدى ورثة المفكر الراحل الدكتور عبدالرحمن بدوي مكتبة والدهم التي تضم نحو 12 ألف كتاب في الفلسفة والتراث والنقد الأدبي الحديث إلى مكتبة الإسكندرية.

وذكر أن دار الكتب والوثائق المصرية قد حظيت بالحصة الكبرى، فقد خصّها أكثر من سبعين عالمًا وأديبًا ومثقفًا ورجل دولة وشاعرًا بمكتباتهم الخاصة، ومنها مكتبة الإمام الشيخ محمد عبده التي تعد بالغة الأهمية في تاريخ مصر والعالم الإسلامي لما تحتويه من كتب ثمينة في الفكر الإسلامي والتاريخ والعلوم الشرعية، ويبلغ عدد كتبها 923 كتابًا، ومكتبة المؤرخ الشهير عبدالرحمن الرافعي التي ضمّت 2998 كتابًا في التاريخ والعلاقات ما بين الشعوب والآداب، ومكتبة وزير الاقتصاد المصري الأسبق الدكتور حسن عبّاس، وضمّت 11 ألف كتاب في الاقتصاد الدولي والسياسة ومختلف العلوم، ومكتبة الكاتب الساخر محمد عفيف التي تضمنت علوم اللغة وآدابها، وفنون كثيرة اعتنى بها الكاتب في حياته (2042 كتابًا)، ومكتبة الدكتورة عائشة عبدالرحمن الملقبة بـ “بنت الشاطئ” التي كتبت كثيرًا في التاريخ الإسلامي والتراث وعلوم الشريعة (3700 كتاب) وأخيرًا وليس آخرًا مكتبة الكاتب الكبير توفيق الحكيم.

وذكر أن مكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت قد أهدي لها المكتبة الخاصة التي امتلكها نعمة يافث وضمّت نحو 40 ألف كتاب، وتم إطلاق اسمه على مكتبتها المركزية امتنانًا لهذه الهدية السخية.
وقد أهدي لمكتبة الملك فهد الوطنية التي تعد المكتبة الكبرى في المملكة مايقارب ثماني عشرة مكتبة شخصية، وحظيت الجامعات السعودية بمجموعة من المكتبات الخاصة، فقد أُهدي لجامعة الملك سعود في الرياض مكتبة العلامة الزركلي، ومكتبة الأديب الشاعر محمد بن أحمد العقيلي. كذلك أهدي للمكتبة المركزية في جامعة الملك فيصل بالأحساء عدد من المكتبات الخاصة، ومنها مكتبة الدكتور محمد صالح، ومكتبة السيد أحمد الهاشم، ومكتبة الشيخ محمد بن عبدالله العبدالقادر.

وقد بيع الكثير من المكتبات الشخصية على مكتبات كبرى أو مؤسسات قد تحفظ هذا التراث العلمي لمؤسسها، أو قد تباع على تجار يستثمرونها للربح ويؤدي لتشتتها والشواهد كثيرة لايسع ذكرها.
ومن خلال الاستعراض لنماذج مصير المكتبات الشخصية في أنحاء العالم العربي، فان هذا المقال يبحث عن مشروع مابعد تأسيس المكتبة الشخصية، وأهمية التخطيط الشخصي لمصير تأسيس المكتبة الخاصة وحفظها أو استثمارها في مشروع نشر المعرفة للأجيال التي تبحث عن المعرفة وأمهات الكتب والمصادر العلمية، خصوصًا أن هذه المكتبات قد تم تكوينها بعد ما تطلب الأمر الكثير من الجهد والمبالغ باهضه الثمن وعلى مدى سنوات طويلة، ولذلك فأننا نشير إلى التساؤل السائد لدى الكثير: ما هو الخيار الأمثل لمصير المكتبة الشخصية الذي على مالكها أن يختاره؟ وهل الخيار الأفضل تكوين مكتبة ورقية أو إنشاء مكتبة رقمية نتمنا أن يشاركونا أصحاب العقل والرأي الإجابة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى