أقلام

جمالياتُ المشاهدِ السينمائية في ديوان ((موتى يحرثون جسدي))

محمود المؤمن

((إننا جميعًا أطفالُ الموتِ، والموتُ هو خلاصُنا من خِداعِ الحياة)) الشاعر الإيراني صادق هدايت.

عدنان المناوس الشاعرُ الذي تُقلِّبُ جسدَهُ الكوابيسُ الوجوديةُ بيدٍ وحشيةِ الأطرافِ أثناءَ موتهِ المؤجّلِ،

أَلِفَ ثَيمةَ السوداويةِ وكلُّ ما يَمُتُّ لها بصِلةٍ، وصاغَ منها رؤيتَها الشعريةَ بعدما اعتلى قممَ معانيها، وغاصَ في قيعانِ ألفاظِها مُتخِذًا

من روايةِ (البومةِ العمياءِ) طريقةً، ومن تجربةِ (صادق هدايت) طريقًا، فجاءت تجربةُ (موتى يحرثون جسدي) فريدةً من نوعِها مُتّْحِدَةً في موضعِها مُؤنسةً في وحشتِها.

ولا أعني بذلك أن قلقَ التأثيرِ قد عمِلَ عملَهُ في تجربةِ الشاعر المناوس لأنه تجاوزَ هذا التأثيرَ منذ بدايةِ نضوجِهِ الشعري المبكِّرِ، ولكن القلقَ لازمَهُ وقد عبَّرَ عن ذلك قائلًا:

إنها الخامسةُ الآنَ..

وما زلتَ مأخوذًا

بحبلِ المشنقَةْ

انتظرني -يا قريني-

فهنا قلقٌ

أكبرُ من أن أنطُقَهْ

إنني أسمعُ عند البابِ

طرقاً مخيفًا..

مَن هنا كي يَطرِقَهْ؟!

انطلاقاً من هذه الكوميديا السوداءِ ورغمَ هذا القلقِ والكوابيسِ الوجوديةِ التي لا تكادُ تُفارِقُهُ ببراكينها التي تفورُ وبسماعِهِ لضحكةِ الشيطانِ التي تنهشُ خاطرَهُ ومشاهدتُهُ الذئابَ يَنقَضَّونَ على مشاعرِهِ، وما خطر ببالِك وما لم يخطرْ بهِ من الأحلامِ التي تُراودُهُ عن نفسِهِ في الليلِ والطيرِ التي تأكلُ من بقايا الشَعرِ في رأسِهِ والخوفِ الغريبِ الذي يسري في دمِهِ رغمَ كل ذلك عادَ مُنتصِراً مُردِّدًا في فضائِهِ الأبدي:

الآنَ تنحسِرُ الرؤى.. وأعودُ من

فوضى معانيها برؤيةِ شاعرِ

الأديب عدنان المناوس في ديوانيهِ اللطيفِ بوزنِهِ ذي الصفحاتِ القليلةِ والكثيفِ بمعانيهِ ذي الثِقلِ الشعري الذي يليقُ بمطالعتِهِ وثقافتِهِ استطاعَ أن يُنتِجَ فلمًا هُولْيُودِيًا من المجازِ يحتوي على مشاهدٍ سينمائيةٍ خرافيةٍ جعلَ من صرخاتِ الموتى مُخرِجًا عظيمًا كـ(كريستوفر نولان) في براعتِهِ:

صرخاتُ موتى يَنفِضونَ ترابَهم

في مُقلتيَّ ويَحرِثونَ مقابريْ

وجعلَ من المرايا منصةً لتَدفِقِ الأحداثِ وانعكاسِ الأضواءِ رغمَ ما تُسبِبُهُ من ألمٍ وفوضى

ملعونةٌ هذي المرايا كلَّما

قابلتُها دبَّتْ على جسدي الهوَامْ

وقد استدعى شخصياتٍ نخبويةٍ على مستوى المشاعرِ تجيدُ لَعْبَ الأدوارِ وتبادُلَها على مسرحِ الحياةِ بأدقِ التفاصيلِ وجعلَ لهمْ أدوارًا رئيسيةً كـ(الفزعِ والخوفِ والقلقِ والشرودِ والهذيانِ والنسيانِ والجنونِ والغوايةِ والمللِ والخِداعِ والهواجسِ والشبهاتِ والشهواتِ) ولنا أن نتأمَّلَ في هذه المشاهدِ الثلاثةِ:

1-المشهدُ الأولُ

في مكتبتي

مللٌ عذبٌ يهطلُ فوقي

فأظلُّ أحدِّقُ في الجدرانِ بلا معنى

ما المعنى؟!

والمللُ العذبُ أراهُ على الجُدرانِ يسيلْ!!

بلّْلِني أكثرَ يا مَلَلي

حتى تَغْرُقَ قمةُ رأسي في اليأسِ

فأسقطُ مُنتشيًا بعُذوبةِ هذا الهذيانْ…!

فلعلّي في قاعِ النسيانْ

أَسبُرُ ذاكرةَ الإنسانْ…!

2-المشهد الثاني

خائفٌ من غربةِ الأشياءِ

من هذا البياضِ/المقبرةْ

وأرى فيما يرى الخائفُ

إذ أهرُبُ منيّ

جُثْثاً تَهرُبُ من وحشةِ ذاتي

نحو بابِ الآخرةْ…!!

3-المشهدُ الثالثُ

أنامُ أنامُ من ظمأٍ لأملأَ بالرؤى كاسي

وأسبحُ في مدى اللاوعيِ مخنوقاً بأنفاسي

أشفُّ.. أطيرُ.. أَغرَقُ.. أختفي في جيبِ وسواسي

وأهذي حيث في الهذيانِ يَصدُقُ بوحُ احساسي

وجعل أدوارَ الكومبارس لشخصياتٍ لا تَقِلُّ أهميةً عن سابقيهم على مستوى الجسدِ كـ(تضاريسِ القوامِ والجُذامِ والجُثةِ والخَدَرِ والرأسِ واليدين المرتعشتين والعينين الفارغتين والشفتين التائهتين والقدمِ واللحم والعظم وسيلِ الدماءِ )

ويَحِقُّ لنا التمعُّنُ في هذه اللَّقْطَاتِ الثلاثِ لتتجلى لنا الفكرةُ بشكل أدقّْ

1-اللَّقْطَةُ الأولى

كانت يدٌ وحشيةُ الأطرافِ…

تخرجُ من سديمِ الكونِ…

توغِلُ في طريق الليلِ نحوي

كانت يدٌ…

تجثو على صدري…وتعوي…!

2-اللَّقْطَةُ الثانيةُ

جُثةٌ تطفو على الموجِ بلا رأسٍ

وظِلٌّ واقفٌ مثلَ فنارٍ فوقَ رملِ الشاطئِ المهجورِ

والجُثةُ تطفو دون رأسٍ

للنِهاياتِ البعيدةْ…!

3-اللَّقْطَةُ الثالثةُ

خدرٌ يدبُّ الآنَ في أطرافِهِ

فيحسُّ أنَّ دِماهُ غادرتِ الجسدْ

خدرٌ يدبُّ.. وكلُّ ما يبغيهِ أن

يُبقي على الخَدَرِ اللذيذِ إلى الأبدْ

خدرٌ يدبُّ بهِ وإن غلبَ الكرى

عينيهِ يصحو وهو يَنعى ما فقدْ

وضربَ بين المشاعرِ والجسدِ برزخًا عظيمًا يفصلُ بينهما تارةً ويَربِطُ بينهما كالجسرِ تارةً آخرى

ليأتي لنا بمجازاتٍ جديدةٍ بين احتمالاتِ القصيدةِ

متأرجحاً بين تأمُّلِهِ لكأسِ الشاي الفارغِ وبين تذوقِهِ لطعمِ الخوفِ من كأسِ الطريدةِ

وهذا البرزخُ يُجسِّدُ الطِباقَ في المحسناتِ البديعيةِ مَرةً إيجابيًا وتارةً سلبيًا

(يغلي/بارد – يرى/لا يرى –

ومض/عَتمة – شروق/ظلام –

بداية/نهاية – يكتِبُني/يمحوني – جَزْر/مدّ

الصحو/الكرى – البداية/الختام – الأُلفة/الوحشة

العدم/الوجود – الشيء/اللاشيء – الانتحار/البقاء

عشتُ/مُتُّ – الصبح/الليل – الحلم/اليقظة

لاح/اختفى – كن/لا تكن – الذاكرة/النسيان

قمة/هاوية – العلوي/السفلي – الوصل/الفصل

أُبعثِرُني/أَجمعُني – تطويني/تنشرني )

وأكتفي بذكر شاهدين على هذه البرازخِ المكثفةِ في الديوان

1- الشاهد الأول

أرنو إلى (عدمٍ) فيقفزُ لي (الوجودُ)

من الحقيقةِ مثلَ وحشٍ كاسرِ

أرنو إلى (اللاشيءِ) يخرجُ من دمي

(شيءٌ)..يُذكِّرُني بعمرٍ خاسرِ

2-الشاهد الثاني

خارجاً من جسدٍ (يغلي) إلى

جسدٍ آخرَ مثلَ القبرِ (باردْ)

و (يرى) العالمَ أو قل (لا يرى)…!

إنهُ المأخوذُ مفقودًا وفاقدْ

وبعد هذه الجولةِ الماتعةِ/الموجعةِ في ديوان (موتى يحرثون جسدي) أستطيعُ القولَ بملءِ الفمِ إن عدنان المناوس أنجبَ نفسَهُ من جديدٍ كطائرِ العنقاءِ دون أبٍ شعري، له بصمتُهُ المتفردةُ ولمستُهُ الإبداعيةُ المميزةُ لأن مغامرتَهُ مُثَّقلَةٌ بالإطلاعِ ومكثَّفةٌ بالتجاربِ العميقةِ التي لا تشبَهُ التجاربَ الأخرى ولا تستطيعُ التجاربُ الأُخرى أن تتشّبَهَ بها

أُلقيت الورقة النقدية في (صالون صهيل الكلام 81)

ناشر الديوان/ خيمة المتنبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى