التجربة الشعرية في أطباق أحمد الرمضان الشهية
محمود المؤمن
قد يطلق اسم طبق من الطعام على قبيلة فتشتهر به، وها هي قريش قد أشتُهِرت بـ(سخينة) لشدة حبها لهذه الأكلة، والسَّخينَةُ هي: طعامٌ يُتَّخَذُ من الدقيق دون العصيدة في الرقّة وفوق الحَسَاء.
لذلك وثَّق الصحابي الشاعر كعب بن مالك هذا اللقب في بيت خالد ما خلُد الدهر يوم بدر بقوله:-
زعَمتْ سخينةُ أن ستغلِبُ ربَّها
ولَيُغْلَبَنَّ مُغالِبْ الغَلاَّبِ
وكم سُرَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرًا بهذا البيت وأشاد به.
ونجد العرب يطلقون بعض التسميات على الأطعمة بحسب مكانتها في نفوسهم واشتهارها بينهم
فأطلقوا تسميةَ الأسودين على الماء والتمر.
ومن حسن طالع الطعام أن يَجدَ شاعرًا مغرمًا بأطباقه المتنوعة مُتلذِّذًا بنكهاته ويُخلِّدَ لحظاتِ الشهيةِ الساخنة بما متَّعهُ اللهُ من جزالة شعرية ومتانةٍ أدبيةٍ وخيالٍ محلِّقٍ يدخلك معه في مسرح جريمة الالتهام حتى تشعر بطعم الوجبة متسللًا إلى فمك وإن وجد مطعمًا متميزًا في وجباته لا يغفل عن تكريمه بقصيدة معنونة باسمه، فهو يعد فارس هذا الغرض الشعري -أدب الطعام- دون منازع؛ لأن هذا الغرض من النادر أن يُطرق من قِبل الشعراء ربما لغفلتهم عنه أو لربما لكونه من باب الترف فالشعر منزه عن ذلك -حسب رؤية بعضهم- أو لربما تكون هناك أسباب آخرى تبرر عزوفهم عنه،
ومن اللفتات الرائعة التي تحسب لهذا الشاعر الولوج في مناطق بكر فلم يدع أكلةً شعبيةً إلا وثَّقها ببيت شعري، وقد يسهب في التغزل بها في قصيدة برمتها كما يتغزل الحبيب بحبيبته وكيف لا يكون ذلك وهو القائل:
وأغرف من بحورِ الشعرِ بيتًا
يمرُّ بخافقي عذْبًا زُلالا
ولم يكن استدعاء الأكلات الشعبية المحببة لغالبية مناطق المملكة (مچبوس الأحساء – ومحموس القطيف – ومراصيع القصيم -ومطازيز نجد – وحنيذ الجنوب – وسليق الطائف -ومِنْتُو الحجاز -ومِليحيَّة الشمال) استدعاءً عبثيًا بل هو نشر لثقافة المجتمع من ناحية التميز والخصوصية في الوجبات وما تهواه النفس من شهوة البطن، ولولا العشق المتفاني لتناول الأطعمة والتلذذ بتذوقها لما استطاع أن يبدعَ في وصفها هذا الوصف الدقيق وكأنما هويته المهيمنة رياضة تحريك الفم.
أخذتُ إجازتي ليخفَّ وزني ….
وأطردَ من تدلِّي البَطْنِ همِّي
وأولُ ما ابتدأتُ بها إذا بي ….
بلا وَعْيٍ أسيرُ لطَبخِ أمِّي
وصار بجدولي أَثَرُ (الصَّواني)
وكلُّ رِيَاضَتِي (تَحريكُ فَمَّي)
ومن يتعمق في قراءة قصائده الطريفة التي طوعَّها في هذا الجانب ووضعها في قالب شعري رصين يتجلى له مقدار الهم الذي تكبد عناءه في رسم لوحات كوميدية يبهجُ بها القلوب، وقد ورد عن الإمام عليّ بن أبي طالبٍ: رَوِّحوا القُلوبَ، واطلُبوا لها طُرَفَ الحِكمةِ؛ فإنَّها تمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدانُ.
وإن كان قيس جُنَّ في حب ليلى وعنترة ذاب في عشق عبلة فهذا الرمضان قد تولَّع حبه في الشكولاتة فصرَّح قائلًا:
الحبُّ. سرُّ الحبُّ.
معنى الحبِّ في
صفٍّ لأعوادٍ من الــ(كِت كاتِ)
وكان ذات يوم ماشيًا في الطريق العام منهكًا … و إذا به يرى لوحة في حقيقتها مكتوب (كافة التخصصات الطبية) لكنه رأها (كنافة التخصصات) فكتب:-
هل أرى محضَ سرابٍ …
أم تُرى في العينِ آفةْ
من تُرى مثلي قَرَاها ..
لوحةَ المَشفَى (كُنافة)؟
وطالما أعلن في أكثر من قصيدة هزيمته أمام الرجيم ونكث مرغمًا العهود والمواثيق بمجرد مشاهدته للأطباق وهي تتطاير أمام عينيه:-
إنه المنديُ في فكري يُنادي
ساعد الله فؤادي
وأنا أنهشُ ذاك اللحمَ ممزوجًا بأنواع الملذاتِ
وتندى صلعتي البيضاءُ من عضِّ اصطيادي
ولا تسله عن حلول شهر رمضان فتلك حكاية من عالم آخر مع تنوع الأكلات وتزاحم الحلوى:
ورأينا الكعك والحلوى وقد
ملأت أطباقُها كلَّ الجهاتْ
و(بلاليطٌ) و(قيماتٌ) لها
جانب (الساقو) على الطعمِ حلاةْ
آه لو بينَ يَدِي (سمبوسةٌ)
عزفتْ في المضغِ نُوتَ القرمشاتْ
وأعادت هذه الذكرى إذا
حلَّ شهرُ الخيرِ بين الذكرياتْ
ولا يزال السؤال يراودني وأنا أتنقل من طبق إلى طبق هل المقصود بهذه الأطباق ذاتها أم ترنو لمعنى آخر
باطني؟ أوليس كما قالت العرب قديمًا: “المعنى في بطن الشاعر” (وهو مثل قيل للدلالة على أن القصيدة التي يكتبها أي شاعر قد يستشف منها القاريء معنى معينًا، ولكن المعنى الحقيقي يكون دائمًا لدى الشاعر الذي أبدع القصيدة، وربما يكون ذلك من جماليات الفن، يأخذه كل شخص بالمعنى الذي وصل إليه)، فهل قصيدته (الراقصة خلف الزجاج ) هي الشاورما أم هي فتاة أخذت بلبّه فآثر أن يموِّه ليكتم ما يجول بخاطره:-
تدورُ حولَ عمودٍ وهي راقصةٌ …
خلفَ الزجاجِ بفنٍّ يلهبُ العَمَلا
فحاصرتنيَ إغراءً يهيِّجُني
وأومأت ليَ أقدِمْ سيدي عجَلا